بقلم: عبدالقادر شاكر.

 

ينسب لأبي العلاء المعري-رحمه الله- أبيات من الشعر وصفت بأنها تشكك في عدل الشريعة وتطعن فيها، وذلك في قوله:

يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبُعِ دِينَارٍ

فأجابه بعض المنسوبين للفقه بقوله:

وِقَايَةُ النَّفْسِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصُهَا ... ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ البَارِي

وأجابه آخر بقوله:

صِيانةُ العِرْض أغْلاها وأرْخصَها ... صِيانةُ المالِ فَافْهم حِكْمة البارِي

 وأجابه آخر: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت.

وأُعْجِب بهذه الإجابات كثير من المسلمين، رغم خلوها من تعليل علمي معتبر، فقد حرص أصحابها على محاكاة البيت الشعري الذي تضمن طرح هذه التساؤلات، إمّا بِشعر على وزنه، أو بعبارة مقفاة، وكأنهم في ميدان مباراة شعرية، أو مسابقة خطابية.

وكان الأولى بهم أن يتجردوا - للإجابة على مثل هذه التساؤلات- عن النزعة الوعظية، والنفس المريضة التي تتخذ من سوء الظن أصلاً في معاملة الناس، كما هو شائع ومتفشي في زماننا.

 فكان الواجب أن يحسنوا الظن بهذا المبتلى ويحملوا سؤالاته على محمل حسن، وحال المستفهم؛ فإن من ابتلي بعقلٍ مثل عقل المعرِّي، لايسلم من أن تثار في نفسه أسئلة مثلها أو أعظم منها، وهو ليس من علماء الشريعة، ولا عهد له باشتغال بعلومها ومعرفة أسرارها ومقاصدها.

 وليس بالضرورة أن يكون صاحب هذه التساؤلات ملحداً أو زنديقاً أو مشككاً كما اتُّهِم المعري بذلك؛ فإن النبي ﷺ  يقول :( إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ. فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ. فَيَقُولُ: ‌مَنْ ‌خَلَقَ ‌اللَّهَ؟ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) فخطور هذا السؤال في نفس العبد المسلم لايستلزم الكفر، ولا الشك ولا الطعن في دين الإسلام، فلم يحكم النبي ﷺ على صاحب هذا السؤال - أعني المذكور في الحديث آنفا- بزندقة ولا إلحاد.

 ولا شك أن تساؤلات المعري أدنى من ذلك بمراحل.

أما السؤال المنسوب للمعرِّي فيمكن الإجابة عنه بالقول:

يكفي المتسائل أن يعكس صورة المسألة لتنكشف له الحكمة البالغة من هذه التشريعات، فيقال: لو أن نصاب السرقة صار مثل نصاب القتل، فلا تقطع اليد إلّا إذا سرق السارق مئة من الإبل أو قيمتها، فلك أن تتخيل الفساد الذي سيفتح على الناس من تطاول السرّاق واللصوص على أموال الناس، لأمنهم العقاب من سرقة تسعة وتسعين من الإبل أو قيمتها؛ لأن الحد لا يقام إلّا على سارق المئة.

ثم انظر إلى عقوبة القطع أو إتلاف عضو لو كانت ربع دينار فقط، كم من الشر المستطير سيلحق الناس، فيتجرأ السفهاء على سفك دماء خصومهم، وبتر أعضائهم؛ لأمنهم أن العقوبة هي ربع دينار فحسب.

ثم لما كنت مفسدة الجنايات على البدن أعظم من مفسدة الجنايات على المال؛ فلاجرم فقد عظمت عقوبات الجنايات الواقعة على النفس؛ حفظاً للأرواح ومنعاً من سفك الدماء.

وأما عقوبة القطع فإن النظر فيها إنما يكون من جهة تضييق التعدي على الأموال بتنقيص قيمة النصاب المستوجب للقطع، فإنه لو رفعت قيمة النصاب  لتمادى الناس بالتعدي على أموال غيرهم بسبب أمنهم العقاب ما لم يبلغ النصاب.

 

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter