مقدمة  :
•••••••••••••••
الاختلاف سُنّةٌ كونية، وبديهةٌ إنسانية، وضرورةٌ تشريعية، فمن رام إزالته بحصر جميع الأفهام في صورة واحدة لتفسير النص، و ألْزمَ الناسَ بما يراه هو من دلالة : فقد سَلَك منهجاً فرعونياً، إذ قال لقومه: { مَا أُرِيكُمْ إلاّ ما أَرى}
وقد ساد هذا الداء "الفرعوني" بين أوساط كثير من الإسلاميين؛ إذ حظروا على غيرهم مخالفةَ فَهْمِهِم، و منعوا الخروجَ عن مذهبهم، ناعتين مخالفيهم بالابتداع في الدين، والضلال المبين .
رغم أن الله تعالى يقول :{و لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [هود :118]
فالساعي لجمع المسلمين ضمن مذهبٍ واحد، أو جماعةٍ واحدةٍ، أو فهمٍ واحدٍ : هو جاهل بأسرار التشريع، و بلوازم التنويع، و مضادٌّ لمشيئة الخلّاق البديع.
وليس القصد هنا نقد هذه الظاهرة، بل القصدُ التصدير لأصل هذا المقال وهو : "صناعة الدليل وطرق الاستدلال[1]" .
فإنّ من أخطر ما يقع به غيرُ المتأهلِ للنظر ، عند تصدّره للدفاع عن مذهبه أو معتقده هو : مَأخَذُ أدلّتِه، وطريقةُ استدلالِهِ، فقد ضلّ خَلْقٌ كثيرٌ إذ توهموا أن صناعة الدليل تنحصر في معرفة النص، وانتهاضه للاحتجاج عندهم، رغم أن صحة الدليل لا تستلزم صحة الاستدلال ، و أنّ فهْمَ النصِّ هو محضُ اجتهادٍ غيرُ مُلزمٍ لسوى مُفسِّرهِ.
وأن الدليل- أيّ دليل كان – لا ينتهض للحجية إلا بعد مروره بثلاثة مراتب هي :
١- تصحيح الدليل .
٢- استنباط الدليل .
٣- ترجيح الدليل .
وكلُّ مرتبةٍ من هذه المراتب يستوعب تفصيلُها مُجلداً، بل مجلدات، فكيف بِمَن يأخذ النص من مظانّه ليستدل به على مراده دون اجتياز المراتب الثلاث !!!
ثم هو يستعين بفهم غيره في تفسيره لذلك النص، واقعاً في وَهْمٍ أشنع من الوهم الأول وهو : ظنُّه أن تفسير النص هو ذات النص بعينه، ولا فرق بينهما !!!
و واقع حالِ أكثرِ المتجادلين عند استدلالهم لمذاهبهم أنهم يحتجون على دلالة النص لمذهبهم، بفهم العالم الذي ينتمي لذات مذهبهم، فحسب، فجعلوا ذلك العالم واسطةً بينهم وبين النص الشرعي الذي يظنون أنّه يدلُّ على ما هم عليه، ويؤيد ما يذهبون إليه !!!
فسلّموا له طريقةَ استدلالِه، وانقادوا لفهمه و مقالِه، و عطلوا عقولهم عن أن تنتهض للنظر في النصوص: استنباطاً واستدلالاً([2].
فهم يتّكؤون على فهمه[3]في تفسير النص والاستدلال به، فيقعون في مأزق معرفي كبير؛ إذ يتوهمون أن تفسير العالم لذلك النص هو عين دلالته القطعية، فيتحولون من الاستدلال بالنص المعصوم الى الاستدلال بفهم ذلك العالم غير المعصوم، ولا يرون فرقاً بين ذات النص وبين تفسيره وِفْق فهم العالم غير المعصوم .

 



[1]))وهو مأخوذٌ من عنوانٍ لكتاب، أعمل على تأليفه منذ سنوات، أسأل الله العون على إتمامه على أكمل وجه.

[2]))أخص بكلامي هذا من اتصف بأهلية النظر والاستنباط، لا مَن انحدر عن هذه المرتبة بقصور علمه وضعف فهمه .

[3]))أي : فهم ذلك العالم .

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter