اختلف الفقهاء قديماً و حديثاً في ما يجوز إخراجه في صدقة الفطر، وليس هذا محل بسط الخلاف ونشر الأدلة ، بل القصد بيان مراتب النظر الفقهي في حكم المسألة .
وخلاصة الخلاف ، ومراتب النظر في المسألة ثلاثة مراتب وهي :
   المرتبة الأولى : مَن ذَهب إلى التمسك بظاهر النص، فقصروا زكاة الفطر على المنصوص، وما شابهه مِمّا اعتاده الناس في قوتهم ، فأصل استدلال أتباع هذا المذهب هو : التمسك بظاهر النص، وعدم الأخذ بالاعتبارات المؤثرة الأخرى كالمقاصد والمصالح .

    المرتبة الثانية : مَن ذهب إلى جواز إعطاء القيمة من تلك الأطعمة المذكورة، وهؤلاء نظروا - في ظنهم - إلى المقصد من تشريع زكاة الفطر، ومراعاة المصالح المرجوّة من تجويز إعطاء القيمة ؛ لتوسيع باب انتفاع الفقير من المال المُعطى له .
هذا مجمل صورة الخلاف في المسألة .

  لكن بقي نظر آخر، هو عندي أدق وأعمق من النظرين المتقدمَين، و إن آلَ إلى أحدهما ، وهو :
     المرتبة الثالثة : إن تشريع زكاة الفطر جاء ضمن جملة مكملات للنقص الحاصل من كمال عبادة الصوم المفروض في رمضان ، ومن سنن التشريع العامة في سائر الطاعات : أن يُجبر النقص الحاصل فيها بطاعة أخرى هي من جنس الطاعة التي شُرّع لأجلها ذلك الجابر، فشُرّعت الصلاةُ النافلةُ لِجبر النقص الحاصل في الصلاة المفروضة، فكذا شرعت زكاة الفطر جبراً للنقص الحاصل في فريضة الصيام .
ومن وجه آخر : فإن زكاة الفطر ما جاءت لتعالج ظاهرة الفقر، فهذه الظاهرة شّرعت لأجلها فريضة أخرى هي الزكاة ، ثم أتبعت بنافلة أعم منها هي الصدقات، وهذه الحقيقة غابت عن أنظار كثير من الفقهاء .
فصدقة الفطر جاءت جامعةً لوصفين معتبرين معاً هما :
1. جبر النقص الحاصل لفريضة الصيام؛ لِمَا يلحق الصائم من رفث أو فسوق .
2. إدخال السرور على الفقراء في يوم العيد، وليس لرفع ذُلِّ الفقر عنهم بالكلية، ولو تأملتم فإنَّ القيمة التقديرية لثمن الطعام المُعطى في زكاة الفطر ليس له جدوى مؤثرة في رفع الفقر عنهم ولو مؤقتاً، إنما هي بمثابة هدية العيد .

بل لا أدلّ على عدم اعتبار قصد رفع الفقر في زكاة الفطر من إيجابها حتى على الفقراء .
وهذان الوصفان -أعني الفقرتين ١و٢ - أشير إليهما في قول ابن عباس رضي الله عنه :( فَرَضَ رسولُ الله ﷺ زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين ) وهو في حكم المرفوع .
فقد جاءت لفظتا (طُهرةً) و (طعمةً) منصوبتان على أنهما مفعول لأجله ، فهي تصريح بيّن بعلة تشريع زكاة الفطر ، ففي الحديث بيان جلي بأن القصد من تشريع هذه الشعيرة : هو جبر النقص الحاصل في الصيام من جانب، وإطعام الفقير من جانب آخر، وقد تقدم أن من سنن التشريع أن تكون الجوابر من جنس الطاعة المجبورة .
فليس من الشرع ولا من الفقه أن تجبر الصلاةُ بصيام ، أو تجبر الزكاةُ بصلاة ، ولا أن يُجبر الصيام بمال !!!
فتضمن لفظ الحديث مع وجازته : مقاصد زكاة الفطر في المقدمات وفي المآلات .
فيتحصل مما تقدم : ترجيح القول بإخراج الطعام على القول بإخراج قيمته ، مع مراعاة عرف كل بلد ومدينة في غالب قوت طعامهم؛ تحقيقاً للمصلحة المرجوة من إسعاد الفقير يوم العيد .

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter