كنت ولا زلت أتناول -فيما أكتبه - قضيتين جوهريتين يرتكز عليهما الإصلاح والتجديد وهما :

الأولى : تحرير العقول وإعادة تركيبها .

والثانية : تصحيح العلوم وإعادة بنائها .

فلا إصلاح ولا تجديد دون عقلٍ مُحرَّر وعِلمٍ مقرَّر .

بل لا يتم الأمر بتمام إحداهما دون تمام الثانية، فلابد من تحققيهما معاً، وقد تناولت في مقال عام سابق : ضرورة إعادة النظر في العلوم والمعارف الدينية والدنيوية ، منبهاً - ومحذراً- إلى ذلك الركام المعرفي الموروث الذي اختلط فيه الحق بالباطل والصحيح بالزائف .

و أتناول في هذه المقالة بإيجاز قضية رغم أنها حُصِرت في تأصيلها بعلم الأصول ، إلا أنها في الجانب التطبيقي تتعدى إلى شتى الجوانب الدينية والدنيوية ، وبالأخص مجالات الإفتاء في النوازل المعاصرة ، وتلكم هي قضية الرخص : معاييرها ومسوغاتها وما يتفرع عنها وما يتصل بها من ضروب التشريع المبني على رفع الحرج .

فقد تظافرت أقوال جمهور الأصوليين على إثبات وتأكيد اقتران الرّخص بالضرورة ، وأن الأحكام الشرعية بوجه عام لا تُستثنى إلا للضرورات فحسب، وصاغوا لذلك التأصيل غير الأصيل قواعد غير محررة منها : الضرورات تبيح المحظورات ، وقاعدة : الضرورة تقدر بقدرها.

بما يوهم تأكيد ذلك التأصيل غير الصحيح؛ إذ قد دلّت نصوص كثيرة على أن الأحكام الشرعية يسوغ استثناؤها لحاجات هي أدنى من الضرورة ، قد تصل أحياناً لمرتبة الترفُه والتوسعة، لا أكثر، فلكم أن تدركوا فداحة ما عليه غالب مناهج الإفتاء المعاصر من ربط الرخص، و الاستثناء من أحكام الشريعة بالضرورات فحسب، و أحيانا الضرورات المُلحّة فحسب دون مراعاة أحوال الناس وحاجاتهم، وما تؤول إليه تلك الفتاوى من حرج وتضييق، أو تفويت مصالح كان يمكن أن تتحقق لو وسّع المفتون في فتاويهم مجالات الاستثناء من أحكام الشريعة ، ولعلكم تتساءلون عن أدلة وأمثلة لِما أؤصل لأجله ، فأذكر لكم ثلاثة أدلة صريحة تثبت لكل متحرر الفكر ثاقب النظر صحة ما أتناوله في هذه المقالة.


المثال الأول : الرخصة في بيع العرايا للترفه:

فقد روى البخاري (2192) عَن ْزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا)
فإن الحكم الاصلي في المسألة : حرمة بيع التمر على النخل خرصاً؛ مخافة الوقوع في الربا، ومع التغليظ في حرمة الربا فقد رخّص في صورة من صُوَره لأجل أن الرجل يشتهي التمر الجديد له ولعياله وليس عنده ما يشتري به إلا التمر القديم ! فتأملوا ، ثم قارنوا بما توافق عليه كثير من المتصدرين للإفتاء بحرمة شراء البيوت لمن لا مأوى عنده ؛ لأجل أن صيغة العقد الذي يتم به شراء البيت تندرج ضمن صورة مشابهة لصورة الربا !!!


المثال الثاني : الرخصة في المعازف والغناء لغير ضرورة :

فقد روى البخاري (2906 ) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ : مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ !؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : " دَعْهُمَا "

ولا يقولنّ قائل : إن الجاريتين كانتا تغنيان غناءً مباحاً ، وغير ذلك من المحامل التي تكلف الشراح في وضعها، فقد غاب عنهم أمر في غاية الأهمية وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ أبا بكر رضي الله عنه في قوله : (مزمارة الشيطان) وهذا الإقرار منه صلى الله عليه وسلم يثبت صحة وصف ذلك الغناء بأنه "مزمارة الشيطان" ، إذ السكوت هنا يدل على الإقرار ، ولو كان الحال كما ذهب إليه المتأوّلون لكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : دعهما يا أبا بكر فإن غناءهما من الغناء المباح ، ونحو ذلك.

 لكن النبي صلى الله عليه وسلم  سكت عن ذلك الغناء الموصوف بذلك الوصف القبيح ، و أذِنَ أن يكون مثله في بيت النبوة!!!
فللمتأمل في الحديث خياران : الأول : القول بإباحة الغناء مع وصفه بوصف منكر(1) .
الثاني : القول بجواز الترخص وسماع الغناء الموصوف بانه "مزمارة الشيطان" لغير ضرورة ؛ إذ أي ضرورة في سماع الغناء حتى عند مبيحيه مطلقاً ؟! إنما هو للترفيه والتوسعة في أيام العيد .
المثال الثالث : الرخصة في اتخاذ الاطفال ألعاب الدمى رغم أنها مصورة على هيئة التماثيل، مع ورود الوعيد الشديد من اتخاذ الصور والتماثيل .

فقد روى ابو داود (4932) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ - أَوْ خَيْبَرَ - وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ، فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ ؛ لُعَبٍ، فَقَالَ : " مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ ". قَالَتْ : بَنَاتِي. وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ ، فَقَالَ : " مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ ؟ ". قَالَتْ : فَرَسٌ. قَالَ : " وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ ؟ ". قَالَتْ : جَنَاحَانِ. قَالَ : " فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ ؟ ". قَالَتْ : أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ ؟ قَالَتْ : فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ .)

فقد رُخص في اتخاذ التماثيل والتصاوير التي ثبتت حرمتها ؛ لمسوّغ هو أدنى من مرتبة الضرورة، وهو حاجة الصبيان إلى اللعب واللهو بها ، وقد تكلف بعض أهل العلم والمتصدرون للإفتاء في شرح الحديث بما يتماشى مع المناهج التي يتمسكون بها، فضيقوا من هذه الرخصة بحصرها في أوصاف معينة كشرط لإباحة اللهو بها من قبل الأطفال.

وليس هذا محل الرد والتفصيل بشأن تلك الشروط.

 

-----------------------------------
(1) اذ الوصف القبيح لا يستلزم الحرمة على التحقيق، فقد وُصِف الثوم بانه خبيث ووصف أجر الحجام بأنه خبيث مع الاتفاق على إباحتهما .


 

 

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter