تحرير العلوم وتصحيح الفهوم :

°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

حول ظاهرة التساهل في تحرير المذهب :

••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••

لعل من أشد المصائب التي حلّت بالعلوم الإسلامية : هو ما اشترك في صناعته جمهور الباحثين المعاصرين من ضعف الورع وقلة التحري في نقل أقوال المذهب "أيّ مذهبٍ كان " سواءً منها المذاهب الفقهية أو العَقَدية ، بل وحتى مذاهب التفسير والحديث والأصول والنحو وغيرها .

فقد اعتاد أكثر هؤلاء الباحثين في علوم الشريعة على التساهل والتسرع في صياغة القول المنسوب لمذهبٍ ما وذلك بالاقتصار على كتاب واحدٍ غالباً ، وقد ينشط بعضٌ آخر من هؤلاء فينظر في كتابين أو ثلاثة من كتب متأخري المذهب "فحسب" ظناً منه أن ذلك كافٍ في تحقيق القول لذلك المذهب في المسألة التي يبحث فيها ، وهو بذلك يكون قد وقع في جهل مركب ، و اقترف ذنباً مغلظاً ؛ فجهله المركب هو ظنه أن مجرد توافق بضعة كتب من كتب متأخري المذهب(1) يكفي بالجزم بنسبة ذلك القول لكل علماء المذهب ، هذا من جهة ، وظنه أن القول المعتمد في كل مذهب هو ما تناقله المتأخرون دون المتقدمين !!!

أما ذنبه المغلظ فمن وجهين أيضاً الأول - وهو الأعظم منهما - وهو : ما يفضي إلى تحريم المباح وإباحة الحرام ونسبة ذلك إلى المُشرّع و إلى الله تعالى بغير علم ولا وازع من الورع ، والثاني : هو الافتراء على علماء مذهبٍ برمَّتهم وذلك بنسبة قولٍ ما ، وزعم أنه المعتمد عندهم دون توثيق ولا تحرير .

ويضاف لذلك مصيبة أخرى وهو ترسيخ وهْمٍ شائعٍ مفاده : أن علماءَ كلِّ مذهبٍ هُم دوماً على قول واحد من أولهم إلى آخرهم في كل مسألة خلافية .

و أجزم أن هذه الظاهرة المتفشية والخطيرة جداً بحاجة لمؤتمر عام في شتى علوم الشريعة لتحرير العلوم وتصحيح الفهوم بشأن ما لحق بالأقوال والمذاهب من لبس وعدم تحرير ، وبنسبتها إلى أقوام هو برآء منها .

ومن أنْفَسِ ما رأيت من أقوال العلماء في هذا المقام هو ما ذكره العلّامة المحقق ابن عابدين الحنفي الموصوف بخاتمة المحققين إذ يقول : ( لا ثقة بما يُفتي به أكثر أهل زماننا بمجرد مراجعة كتاب من الكتب المتأخرة ، خصوصاً غير المحررة ... مع ما اشتملت عليه من السقط في النقل في مواضع كثيرة ، و ترجيح ما هو خلاف الراجح ، بل ترجيح ما هو مذهب الغير مما لم يقل به أحد من أهل المذهب ... وقد يتفق نقلُ قولٍ في نحو عشرين كتاباً من كتب المتأخرين ، ويكون القولُ خطأً أخطأ به أول واضع له ، فيأتي مَن بعدَهُ وينقله عنه ، وهكذا ينقل بعضهم عن بعض ...)(٤) اهـ باختصار يسير .

[ينظر: شرح منظومة عقود رسم المفتي، مطبوع ضمن رسائل ابن عابدين ج١/ص ١٣]

وهذا التوصيف الذي أشار إليه ابن عابدين ينطبق على سائر المذاهب الفقهية منها والعَقَدية ، بل في سائر العلوم الأخرى .

ولاشك فإن هذه الظاهرة بحاجة لمزيد تفصيل وتحرير وبيان ، لكن اعتذر لله ثم لكم لضيق المقام عن مزيد من التفصيل ، ولعلي أردف هذه المقالة بمقالات أخرى لتكون سلسلة علمية اتناول فيها هذه المصائب علّها تحرك في أهل العلم الهمة للقيام بما ينبغي لتصحيحها .

------------------------------------------

(1) ولا اعني بالمذهب هنا المذهب الفقهي فحسب بل المصيبة مستشرية في كل المذاهب الإسلامية الاخرى العقدية والتفسيرية وغيرها كما اشرت آنفاً .

(2) كلام ابن عابدين هذا رغم وجازته فقد تضمن رؤوس المسائل التي أشرت إليها آنفاً ، فهو يستحق محاضرة علمية طويلة أستقصي بها مفرداتها بشرح وبيان مفصل ، اسأل الله العون والتيسير لذلك إنه سميع عليم .


 

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter