بقلم: عبدالقادر شاكر.

 

روى أبو داود (4291) والطبراني في الأوسط (6527) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (1499)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (599) عن أبي هريرة قال : رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا )

ورغم أن كثيراً من العلماء قد تناول الحديث بالشرح إلا أن تلك الشروح التي اطلعت عليها لاتزال سطحية ومختصرة ، فلايزال بحاجة لمزيد بيان ومزيد اهتمام ؛ لما تضمنه من قضية رفيعة القدر، عظيمة الخطر، وهي : تجديد الدين، و سأحاول في هذه المقالة الموجزة أن أقف عند بعض معانيه، مرجئاً استيفاء الكلام على متعلقاته في مؤلف لطيف إن شاء الله تعالى.

فالتجديد : تفعيل، وهذا الوزن يدل على جعل الشيء على وفق الصفة التي اشتقت منها تلك الكلمة، فتحسين الشئ جَعْله حسناً، وتجميل الشئ جَعْله جميلاً ، فكذا تجديد الشئ : جَعْله جديداً ، وجذر هذه الكلمة لا ينحصر على المعنى المتبادر فحسب، (وهو ضد القديم)  كما قد يتوهم ، وقد قَصَرَ شُرّاح الحديث : لفظ التجديد على هذا المعنى ، وهو قصور في فهم معنى كلام مَن أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم .

فالجَدْجَدْ : الأرض المستوية الصلبة كما جاء في لسان العرب، ومن أمثال العرب : "مَن سلك الجُدد أمِنَ العِثار" ثم أردف القول : (الجدد ما استوى من الأرض) [ينظر لسان العرب : ص 561]

فالجد في اللغة: العظمة، والحظ (أي الغنى)، والاجتهاد، والاستقامة، والاستواء، والحزم.

فتأمل ونزِّل هذه المعاني على لفظ : "التجديد " ومعنى وزن " تفعيل" تنفتح لك من المعاني الرائعة التي أشار لها النبي صلى الله عليه سلم في وجازة لفظه .

فالمجدد هو الذي يجعل هذا الدين عظيماً بعد أن كان ذليلاً ، وغنياً بعد أن كان فقيراً ، ومستقيماً بعد أن كان معوجاً ، ومستوياً بعد أن كان وعراً ، وسهلاً بعد أن كان عسراً.

وقد جاء لفظ التجديد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر ، فقد روى الحاكم في مستدركه [5] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ :( إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ فَاسْأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ )

وفي لفظ عند الطبراني في الكبير [84] : (إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَيَتْلُو، فَاتْلُوا الْقُرْآنَ يُجَدِّدُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ)

و أورده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1585

و قد صرح بعض العلماء بأن التجديد لا يشترط أن يكون محصوراً في رجل واحد، بل يصح أن يكون من جماعة، مِن الذين يتولّون القيام بأعباء ذلك التجديد .

قال في "عون المعبود" : (الْمُرَادَ مِنَ التَّجْدِيدِ إِحْيَاءُ مَا اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما وَإِمَاتَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ ) اهـ.

لكن هل التجديد المطلوب في هذا الزمان هو بإحياء ما اندرس من الدين فحسب ؟


   لا أشك ان حصر التجديد في ذلك المعنى الذي ذكره شراح الحديث هو وصف قاصر ، بل لابد للمجدد أن يحقق في الدين أموراً كثيرة ، هي كما أشرت لها آنفاً ، و يمكن إجمالها بالقول : ردم الفجوة بين الشريعة والواقع ، فيجعلهما منسجمين متلائمين .

 فإن المجدد وهو العالم الرباني الذي يكيّف الشريعة بالعلم الراسخ ؛ لتتلاءم مع الواقع بحسب المرونة التي تتصف بها الأحكام ، ويكيف الواقع ليتلاءم مع الشريعة بحسب القوة التي أوتيها .

جدير بالإشارة إليه ، والتأكيد عليه أن التجديد المرجو لا يتصور في حقيقة الأمر إلا من فقيه ، و أعني بالفقيه : المعنى الأعم الذي كان معروفاً عند سلف الأمة ، لا المعنى الضيق الذي استقر عليه مصطلح الفقيه عند المتأخرين .

فلا يستقيم التأهل لشرف منزلة المجدد ما لم يكن فقيهاً حاذقاً، وعالماً ربانياً، وأعني بالعالم الرباني هو:

١- العارف بالحق سبحانه

٢- الراحم بالخلق

٣- الحازم بالحق

(ولا يتسع المقام هنا لشرح هذه الثلاثة)

وهذا المعنى - أعني اشتراط كون المجدد فقيهاً مجتهداً - أكده غير واحد من العلماء منهم العراقي في طرح التثريب ، و ابن القيم في إعلام الموقعين ، حيث قال بعد كلامه عن المنزلة العليا من أهل الاجتهاد من فقهاء الأمة : ( وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» وَهُمْ غَرْسُ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يَزَالُ يَغْرِسُهُمْ فِي دِينِهِ، وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي اللهُ عنه : لَنْ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّتِهِ) اهـ . [ينظر إاعلام الموقعين ج 6: ص125 ]
وتعليل ذلك : أن الفقيه المجتهد هو الأعلم بخصائص الأحكام وأسرار التشريع من غيره من العلماء في سائر علوم الشريعة ، فليس بوسع المفسر ولا المحدث - مثلاً - أن يقيد أو يخصص أو يستثني من الأحكام .

   ......................................

 ولعل للحديث بقية إن شاء الله تعالى .



 

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter