مدخل

لعلم أصول التشريع العام

 

الشريعة العامة والشرائع الخاصة :

وقول الله تعالى : {لكلٍّ جَعَلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً}

 

جاءت الشريعة تامة كاملة؛ لإصلاح أحوال العباد في سائر شؤونهم ، العَقَدية منها والسلوكية والعَمَلية ، وقد نزلت الأحكام من عند رب العالمين الرحمن الرحيم : بألفاظ القرآن الحكيم أو على لسان رسوله الكريم ﷺ ، على نَسَقٍ تشريعي واحدٍ عام ، مُبيِّنةً المعالم العامة للتنزيل ، ومفوضةً خصائص وكيفيات ذلك التنزيل إلى أولي العلم مِمَّن رسخ قدمه فيه ، و بلغ أهلية النظر ومنزلة الاجتهاد ؛ لينظروا في أحوال المكلفين ويصوغوا من تلك الأحكام العامة المنصوصة ما يلائم أحوالهم في سائر شؤون دينهم ودنياهم.

       ومن هنا : فإن نصوص الوحيين جاءت بالشريعةِ عامةً تامةً ، و شاملةً لكل المكلفين ، فلا يستثنى من ذلك العموم أحد منهم في حقيقة الأمر ، إلا أن هذا العموم في التشريع لا يستلزم مساواة الجميع في صورة التنزيل -أعني تنزيل الحكم الشرعي- ، بل قد تظافرت النصوص على أن لكل مكلف شريعتُه الخاصة ، ومنظومته التشريعية الملائمة له ، فإن مناط التكليف مبني على مدارك الإنسان لا على حقائق الأشياء ؛ فإنه لما كان لكل مسلم : تصورُه وفهمُه وعلمُه الخاص به في دين الله تعالى ، فعلى هذا الفهم والتصور ينبني تكليفه بل وحسابه يوم القيامة .

ولا يقتصر هذا الخصوص على الأحكام العَمَلية كما قد يتوهم بعض المشتغلين بالفقه ، بل اطراد سمة الخصوص يتعدى في حقيقة الأمر لسائر أحكام الشريعة بدءاً من الأحكام العَقَدية ثم السلوكية وانتهاءً بالعملية .

كما لا ينحصر هذا التوصيف في أبواب الرُخص ، بل هو في حقيقته شامل لكل التشريعات العقدية والعملية .

ثم لا يظننّ ظانٌّ ضعيفُ الفهم أني أعني : أن لكلِّ مكلفٍ شريعةٌ تخصه لا تشبه شريعة أحدٍ غيرِه !!!

        بل القصد : إنه لما خَلَق الله تعالى الخلق مختلفين في عقولهم وعلمهم وإيمانهم ومداركهم و أجسادهم وقدراتهم البدنية والنفسية ، لا جرم فقد استلزم ذلك - من عدل الله ورحمته - أن نزّل الشريعة ذات ألفاظ و صيغ عامة فضفاضة في دلالاتها ؛ لتوسع للمجتهد ميدان الفهم والاستنباط ، والتخصيص والتقييد والاستثناء.

       ولا يقتصر التخصيص على الرُخص كما مرت الإشارة ، بل يشمل – عند التحقيق والنظر الدقيق-  سائر أبواب التشريع ، ومن ذلك : اعتبار الجهل والتأويل -بشروطهما - عذراً مقبولاً تتغير وفقهما الأحكام العامة ، فتُخصَّص وتُقَيَّد وتُستثنَى ، بما يتلاءم مع حال كلِّ جاهلٍ أو متأولٍ ، فتصاغ الأحكام وفقاً لجهله ، و وفقاً لتأويله ، ولو كان ذلك التخصيص أو التقييد مؤقتاً ، إلا أن الجاهل أو المتأوِّل كسائر أصحاب الرخص ، قد يطول به ذلك العذر فيموت وهو على جهله أو تأويله ، فيقضي سنوات عمره بشريعة خاصة به من إعذار أو تخفيف او تغليظ أو تأجيل أو تغيير لأحكام خاصة به .

وليس القصد من هذه المقالة المختصرة بسط القول في هذا التأصيل الهام ، إذ موضع البسط و التفصيل : كتاب كبير أسأل الله تعالى العون على إتمامه ، إنما القصد  أن يعي المشتغلون بطلب العلم هذه الحقيقة الهامة لما ينبني عليها من ثمار و آثار عظيمة في التشريع والإفتاء والدعوة إلى الله ، والتماس العذر للمخالف وتخفيف حدة النزاع والشقاق بين الإسلاميين .

    فبناءً على ما تقدم : فإنه لا يصح إلزام الناس جميعاً بصيغة واحدة لتفسير النص ، أو بفهم واحد لتوصيف الحكم ، هو بحسب فهم كل منتمٍ لمذهب : التفسير الراجح والفهم الراجح ، أو الذي لا يحتمل غيره ، فليتقِّ الله كل رامٍ إخوانه المسلمين بتبديع أو تفسيق أو تكفير لمجرد أنهم لا يوافقونه على فهمه أو تفسيره هو للنص الشرعي .


...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter