----------------
منذ سنين و أنا أتأمل أحوال المتدينين والإسلاميين و المتمذهبين .
أنظر إلى حججهم وطرق استدلالهم .
و أتأمل أدوات تفسير النص ، وطرق الاستنباط و ألوان الاحتجاج .
و أتأمل أصناف البشر ، وتركيبة كل واحد منهم ، العقلية والإيمانية والعلمية وحتى الأخلاقية .
وتفاوت البشر في الطبائع .
واختلافهم في معايير التدين .
واختلافهم في معايير الاستقامة .
بل اختلافهم حتى فيما يبدو أنه من البديهيات .
حاولت طيلة تلك المراحل أن أتحرر من كل القيود التي تحجر على التفكير الحر والفهم الحر .
وَيْحِي ، كيف ارتضيت لنفسي طيلة سنين مضت أن أحصر عقلي وفكري وفهمي في نطاق مذهب !!!
و كيف يرتضي كلُّ مَن اصطفاه اللهُ ورفع منزلته بالعلم والفهم - كيف يرتضي لنفسه أن يكون تَبَعاً في عقلهِ و فهمه - لعقل غيره ، وفهم غيره ، وتقرير غيره !!!
فقد تبين لي طيلة تلك الرحلة حقيقتان جوهريتان بالنسبة لي هي :
الأولى : إن المذهب - أيّ مذهب كان – ما هو إلا حصيلة فهم جزئي للنص ، وتقريرُ دلالةٍ من دلالاته ، و اطراح - أو إهمال ما سواها .
و الثانية : إن المذهب - أي مذهب كان - هو صياغة الدين وفق فهم إمام - أو أئمة - المذهب .
وبالتالي فإن تركيبة أو بُنية كل مذهب - مهما كان - لا يَسْلَم من نقص أو قصور أو فجوة ، تسوّغ لمخالفيه الاعتراض والطعن ؛ لأن المذهب ببساطة : صياغة بشرية .
وحتى من يظنون أن أصول مذهبهم قد بني على أقوال أئمة معصومين ، فواقع الحال أن أئمة و علماء المذهب قد اختلفوا في توجيه وتفسير أقوال أولئك المعصومين ، ومن ثَمَّ عاد الحالُ كباقي المذاهب من حيث البُنية ، فصار أتباع المذهب تبَعاً لأولئك العلماء الذين يفسرون نصوص أولئك المعصومين !!!
فيتحصل من التوصيف المتقدم أن جميع المذاهب الإسلامية يصح تصويرها بقسمة ثلاثية هي كالتالي :
1- نصوص معصومة ، أو مدعى عصمتها .
2- وعلماء يفسرون تلك النصوص باجتهادات قابلة للخطأ ؛ لأنهم ليسوا معصومين .
3- و أتباع يسيرون على وفق تلك التفسيرات .
وبالتالي صار بُناة المذهب من العلماء يقفون بين النص من جهة ، وبين أتباع المذهب من جهة أخرى ، فأتباع المذهب ينظرون للنص بمنظار علمائه ، فآل الأمر إلى تحجير عقل وفهم المتمذهب وفق عقل وفهم من يتبعه ويقلده .
فيتحصل مما تقدم أن المذهب ليس كلمةً مرادفة للدين ، كما يتوهم أتباع كل مذهب في مذهبهم .
بل هو صياغة الدين وفق طريقة معينة لتفسير النص المعصوم .
وبالتالي : فإن كون النص معصوماً لا يستلزم أبداً أن يكون فَهْمُ مفسري النص معصوماً أيضاً ؛ فعبارة النص المعصوم شيء ، وفهم إمام أو أئمة المذهب لذلك النص شيء آخر ، فليس بالضرورة أن يكون فهم العالم للنص هو ذات المراد من النص دون غيره من الاحتمالات التي تخالط ألفاظ النص .
وأنا أعلم أن هذا التأصيل لا يرتضيه كل - أو أكثر - المتمذهبين - وخاصة مِمّن ارتضى لنفسه تحجير عقله ، و النظر للنص بمنظار إمام مذهبه .
لكن لابد من تنبيهات هنا حتى لا يُساء فهم هذا الكلام :
الأول : أني أوجه هذا الكلام إلى فئة معينة من المسلمين ، وهم المشتغلون بطلب العلم ، المتأهلون للرقي إلى مصاف النُخب ، الساعون إلى التحرر من أطوار و صور الإرهاب الفكري الذي تفرضه البيئات الدينية التي نعيش فيها .
الثاني : أني لا أخطِّيء جميع المذاهب جملة وتفصيلاً ، وليس بلازم القول أن كل جزئيات المذاهب غير صحيحة ، بل هذه قضية يستلزم تفصيلها صفحات يطول تسويدها ؛ ليتبين المراد بدقة .
الثالث : ليس بالضرورة ابتداع مذهب جديد فنقع فيما نحذر منه ، بل لايزال الخير والحق مبثوثاً في ثنايا تلك المذاهب ، ولكل مذهب نصيب من الحق والصواب ، إنما المذموم التحجر في الفهم ، وتحجير الحق في مذهب بعينه دون غيره ، فلا تتوهم أن مذهبك هو الذي يمثل دين الإسلام ، وأن مذهبك هو كلمة مرادفة للإسلام ، وكل من يخالف مذهبك فقد خالف الإسلام .
الرابع : أني أشمل بكلامي هذا جميع المذاهب ، العقدية والفقهية والسلوكية ، فلايتوهم اختصاص صنف من المذاهب دون غيرها ؛ لأن الجميع متكون من اجتهادات ونظر في النصوص ، واستنباط المعاني منها .
...