من المهم جداً – بدايةً - التمييز بين الاجتهاد التأصيلي والاجتهاد التنزيلي .

فالأول هو الذي عناه الأصوليون بقولهم : (لا اجتهاد مع وجود النص) رغم ما يَرِدُ على هذه العبارة من اعتراضات متينة لا متسع لذكرها هنا .
أما الثاني : فهو المجال الواسع لإعمال النظر في الأدلة وما يرافقها من لواحق للحكم مؤثرة في صورة تنزيله ، من جهة ، و موضع تنزيل تلك الأدلة وما يصاحبها من أوصاف و ظروف لها الأثر الكبير في إعادة تكييفها بمقتضى المرونة التي شُرّعت معها أو مع أصولها ، بما يتناسب مع الحكمة والمقصد و المصلحة التي شُرِّع من أجلها ، من جهة أخرى .
وبالتالي فإن سائر أحكام الشريعة العملية وحتى الاعتقادية قابلةٌ للاستثناء والتغيير بحسب ما تقتضيه تلك الجمهرة من الاعتبارات المؤثرة في تنزيل الحكم ، أو بحسب ما يقتضيه نظر المجتهد في حقيقة الأمر .

و لعل كثيراً من المشتغلين بالعلم يظنون أن أسوار الاجتهاد تقف عند الأحكام المقترنة بالحدود والاحكام المقترنة بالمقادير والأعداد ، والذي يبدو لي أن لا أسوار للاجتهاد المعتبر  بالضوابط المعتبرة ، وإليكم بعض الأدلة والتي هي أمثلة لما أقول :
١- أما بالنسبة لتغيير الحدود : فقد روى ابن ماجة [٢٥٧٤] عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، قَالَ : كَانَ بَيْنَ أَبْيَاتِنَا رَجُلٌ مُخْدَجٌ ضَعِيفٌ، فَلَمْ يُرَعْ إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إِمَاءِ الدَّارِ يَخْبُثُ بِهَا، فَرَفَعَ شَأْنَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : " اجْلِدُوهُ ضَرْبَ مِائَةِ سَوْطٍ ". قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّه هُوَ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ، لَوْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةَ سَوْطٍ مَاتَ. قَالَ : " فَخُذُوا لَهُ عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ".
والحديث رواه كذلك الإمام احمد [21935] وصححه الألباني ومحققو المسند ، فتأملوا -مليّاً - رحمةَ النبي ﷺ حتى بالجاني نفسِهِ ، وكيف غيّر النبي ﷺ حداً من حدود الله تعالى بما يتلاءم مع مصلحة المذنب الجاني ، لا بمصلحة المطيع ، أو المجني عليه .
٢- وفيما يتعلق بالأحكام المقترنة بالأعداد : ما رواه مسلم 1472 ( 15 ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ )
فهذا عمر المُلهَم رضي الله عنه قد غيّر حكماً من الأحكام المقترنة بعدد ؛ لأجل مصلحة آنية رآها مسوِّغةً لتبديل لما ثبت عن النبي ﷺ .
٣- وفيما يتعلق بأنصبة المواريث : مسألة التخارج ، وفيها دلالة واضحة على جواز الاجتهاد في الأنصبة ، فقد سوّغ الشارع لغير المجتهد ، وهم الورثة أن يعيدوا تقسيم التركة تبعاً لما يرونه هم من مصلحة ، فكيف لا يسوغ بعد ذلك للمجتهد أن يعيد النظر في تقسيم التركة في نازلة جزئية خاصة ، و أؤكد هنا مرة أخرى إلى أن تسويغ الاجتهاد في الأنصبة هو في حالة استثنائية يرى المجتهد - بعد النظر - رجحان تغيير نصيب كل وارث بعينه من تلك الواقعة بعينها ولا يجوز تعميمها على غيرها .

وبناءً على ما تقدم فإني لا أعني (بتسويغ الاجتهاد في أنصبة الورثة) التغيير التأصيلي ، بل التغيير التنزيلي ، أعني : أن تلك الأنصبة تبقى صورةُ تنزيلها كما هي عليها ابتداءً ، فإذا ما اخترم الكمالُ في اجتماع والتئام تلك الجمهرة من الأوصاف المرافقة للحكم ، فعند ذلك يسوغ للمجتهد أن يعيد النظر فيها بما يعيد لها الانسجام والكمال المرجو ، من انتظام المقاصد والمصالح وتحقيق العدل والرحمة ، وسائر الأوصاف المؤثرة في تنزيل الحكم .

وانا أدين الله تعالى بهذا التوصيف العام للاجتهاد في سائر أحكام الشريعة ، سواءً في أبواب العبادات المحضة ، او المصالح الدنيوية المحضة او ما خالطهما من أحكام أو تشريعات .

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter