أثر المذهب في فهم النص ، والحكمِ على الآخر ، ونتائجُهُ الكارثية :
تعد هذه الظاهرة الخطيرة من أكثر الظواهر السيئة المنتشرة في أوساط النُخب العلمية ، فضلاً عن غيرهم ، وذلك في كل المذاهب –أو المناهج - الإسلامية ، فلا يكاد يسلم منها إلا من وفّقه اللهُ ورزقه عقلاً راجحاً وعلماً راسخاً وفهما ثاقباً وخُلقاً رفيعاً وقلباً رحيماً .
فإنَّ كلَّ منصفٍ متتبع لما يدور في الساحات العلمية ، و الدعوية يتضح له بجلاء وجهان لهذه الظاهرة :
الوجه الأول :
إنَّ كلَّ مُنتمٍ لمذهبٍ ما ، يقرأ ويفسر النص بناءً على أصول مذهبه لا بعقله وفهمه هو ، بل يُغلِّف عقلَهُ بعباءَة مذهبِهِ ، فيرى بعين مذهبه لا بعينِهِ هو، ولا يتجرأ على الخروج من تلك العباءة التي سَجَن عَقلَه داخلها ، فيصير مفكراً بعقل غيره ، ومدركاً بفهم غيره ، وخاضعاً لسلطة مذهبه ، وحاكماً على مخالفيه وفقاً لأصول ذلك المذهب .
الوجه الثاني من تلك الظاهرة : إن القاريء يُخضعُ صاحبَ النصِّ ويفسِّرُ كلامَهُ وفقاً لسلطان مذهب ذلك القاريء ، وليس بناء على مقدمات الفهم و تفسير النصوص الموضوعية - وبالتالي يفسَّر الكلامَ – مهما كان – وفقاً لتصوِّره المسبق عن مذهب المتكلم .
ومن جهة أخرى فإن القاريء يخضع شخصية المؤلف بل وكلامه وفقاً لتصوره المسبق عنه وهذا التصور مُصاغ مسبقاً بناء على سلطان مذهبه أيضاً ، فإن كان تصوره عنه محموداً حَمَل كلَّ كلامِهِ على المعاني المحمودة ، ولو على سبيل التكلف والغلوّ ، و إن كان تصوره عنه مذموماً حَمَل كلَّ كلامِهِ على المعاني السيئة أو المذمومة ، ولو أتى بحقٍ أبلج كالشمس في وضح النهار ، أخضع كل ذلك لتصوره السيء عنه ، وبذلك يتلاشى أثرُ العلم ، ويغلق نورُ العقل ، وينمحي حسن الظن بالمسلم ، ويضيع الحق .
وليس في ذلك أدنى مبالغة للواقع الذي نعيشه ، بل هي حقيقة يلمسها كل منصف متحرر مشتغل بالعلم ، فإنك لو أعدتَ النظر في كثيرٍ مما كتبه مخالفوك ، بتجرد عن قيود مذهبك وبعيداً عن وضع مخالفك في قالب مذهبه لتكشَّفت لك من المعاني على غير الفهم الذي أدركْتّه عند القراءة في قال المذهب .
ثم لابد من التنبيه على قضية في غاية الخطورة والحساسية متعلقة بفهم النص الشرعي أيضاً ، ألا وهي :
إن دلالة النص شيءٌ ، وفهمُهُ وفق قالب المذهب شيء آخر ، ومن هنا فقد توهم خلق كثير إن دلالة النص هي فهمه وفق ضوابط أو أصول المذهب ، ويغيب عن مدارك هؤلاء إن النص معصوم لكن فهم إمام -أو أئمة المذهب - ليس معصوماً .
...