مسائل الفقهاء

المُخَرَّجة على قوانين فيزياء

 

 كتبه

د. بلال فيصل البحر

 

  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق الزمان والمكان، وتعبد الخلق بـما يطرأ عليهما من التغيير والـحـَدَثان، وصلى الله على سيدنا محمد و آله وأصحابه ما دارت الشمسُ في الفَلَك، وأضاء القمرُ بنوره ظُلمةَ الحَلَك، وبعد:

 فهذا جزء لطيف مما علق بذهني حال المطالعة في دواوين الفقه والأحكام، يتعلق بـمسائل نادرة مما صوره الأئمة الأعلام، من المسائل التي تتخرج على قوانين علم الفيزياء وفصوله، أو التي يناسب الحكمُ الذي استنبطوه فيها وفقَ قواعده وأصوله، والله المسؤول أن ينفعنا بالعلم، ويوفقنا فيه لسديد الفهم، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

فصل

حدُّ الفيزياء

علم يبحث عن أحوال الطبيعة وما يطرأ في العالم من حدث وتغيير كخواص المادة والزمان والحركة وطاقة الجسم وكتلته وحرارته وغير ذلك، أصله القياس والتجربة والنظر والرياضيات، واشتقاقه من فيزيقا وهو حرف إغريقيٌّ معناه معرفة الطبيعة، وضدّه الـميتافيزيقا وهو علم ما وراء الطبيعة.

وينقسم علم الفيزياء إلى الفيزياء النظرية وهي التي تعنى بالقوانين وصياغتها وتركيبها، والفيزياء التجريبية ويقال لها التطبيقية وهي إعمال القوانين النظرية للحصول على النتيجة العملية، وللفيزياء الحديثة فروع متكاثرة كالفيزياء الفلكية والحركية والحرارية والنووية وغير ذلك.

وقد كان للمسلمين ولاسيما ببغداد وغيرها أيام العباسيين وبعدهم حِذْقٌ في فروع الفيزياء كالأكر وهي فيزياء الأجسام الكروية، والهيئة والزيج وهو الفيزياء الفلكية وغير ذلك كفيزياء المسطحات وغيرها، فبرع منهم مثل موسى بن شاكر وأولاده وابن الصباح وأولاده، وابن الخصيب صاحب (كتاب الكارمهتر) وإبراهيم بن حبيب الفزاري وهو أول من صنع الإسطرلاب في الإسلام، ومثل أبي علي الخياط ومحمد بن موسى الخُوارزمي وأبي معشر البلخي وغيرهم كما يُعلم من (فهرست النديم) وغيره، وبسطته شرحاً المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتاب (شمس العرب).

وقد ذكر أبو محمد بن حزم أن الرشيد أمر المهندسين ببغداد فصنعوا له ساعةً مائية تدقّ على رأس كل ساعة فتسقط منها كرةٌ معدنية على قاعدة من نحاس، ويخرج منها فارسٌ يدور حول الساعة ثم يرجع من حيث خرج، فإذا كانت الساعة الثانية عشرة خرج اثنا عشر فارساً منها! فأهداها الرشيد لشارلـمان ملك فرنسا، فلما أحضرها الملكُ وحوله الوزراءُ دقّت على رأس الساعة فنفروا منها وقالوا : هذا شيطان.!

ثم كان بعدُ طبقة من أصحاب النظريات كابن الهيثم الذي وضع كتاب (الشكوك على بطليموس) نقض عليه بعض ما اختاره وقرره في (كتاب المجسطي) وكالنصير الطوسي صانع الـمرصد الفلكي بالمغرب، ونظيره العلامة تقي الدين محمد بن معروف الراصد مصنف كتاب (سدرة المنتهى) في الهيئة وأبي الريحان البيروني وابن الشاطر الدمشقي ومنه استمدّ غاليلو نظريته في حركة الأفلاك التي أثارت عليه سخط الكنيسة.!

وابن الشاطر هذا هو أبو الحسن علاء الدين علي بن إبراهيم المتوفى سنة سبع وسبعين وسبعمائة من الهجرة، وهو مبتكر مزولة الوقوت التي بمنارة العروس بالجامع الأموي ويقال لها البسيط، وقد طرأ عليه خللٌ سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف للهجرة، فانتدب لإصلاحه العلامة محمد الطنطاوي وهو جدُّ الأديب الفقيه الشيخ علي الطنطاوي، فاتّفق أنه انكسر بيده فهجاه عبد السلام الشطي بقوله:

كسر البسيطَ برأيه المعكوسِ...شيخُ سوءٍ جاهلٍ منحوسِ

فأمر الأمير عبد القادر بجلد الشطي، وندب الطنطاويَّ فصنع بسيطاً نسج فيه على منوال بسيط ابن الشاطر وزاد فيه قوسَ الباقي للفجر، فجاء أجود من الأول لأن حسابه على الأفق المرئي، والأول على الحقيقي كما قال الشيخ عبد الرزاق البيطار في (حلية البشر).

ولما تمّ عارض الشيخ محمد الخانيُّ أبياتَ الشطي بقوله يـمتدح الطنطاوي:

صنع البسيطَ بغاية التأسيسِ...شيخُ الشام رئيسُ كلِّ رئيسِ

وقد كان من الفقهاء من يدري العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة والهيئة وغيرها كالقاضي أبي الوليد هشام بن أحمد الوقّشي المالكي وكان من أقدر الناس على حلِّ إقليدس، والعلامة كمال الدين موسى بن يونس بن منعة الموصلي الشافعي والقاضي أبي الوليد بن رشد الحفيد المالكي والإمام الحافظ أبي محمد بن حزم الظاهري والعلامة أبي يوسف يعقوب السكّاكي الحنفي والفخر الرازي وصاحبه القطب الشيرازي وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن الهائم صاحب الطريقة المشهورة في الحساب، والعز ابن جماعة والعلامة محمود بن عمر الجُغميني وابن المحب الطبري المكي والشيخ مصطفى علي الحنفي من علماء الأتراك وهو صاحب كتاب (تحفة الزمان) في الهيئة صنفه للسلطان سليمان خان وفيه عجائب، والشيخ حسن العطار الأزهري والشيخ محمد الخاني الشافعي والشيخ مراد الشطي الحنبلي، وغيرهم، وهذا حين الشروع في سياق المسائل وبالله التوفيق.

مسألة الشافعي

فمن ذلك ما صوّره الشافعي مما كان أهلُ الهيئة يُنكرونه ويُحيلونه، وهو اجتماع العيد والكسوف، فلما صوّره استبعده الـمُنجّمون وأهلُ العلم بالهيئة من الفقهاء وأنكروه وشنعوا على الشافعي.

ووجه الإنكار ذكره المازري في (شرح التلقين) مستنكراً على الفقيه أبي محمد عبد الحق الصقلي المالكي متابعةَ الشافعي فيه وقال: (ولقد وقع الشافعي على عظيم شأنه في هذا التصوير).!

وقرره القرافي في (اليواقيت) فإنه قال: (وجه التشنيع أن الشمس إنما تكسف باجتماعها مع القمر في درجة واحدة، وذلك إنما يكون في أيام السِّرار ودخول القمر في شعاع الشمس، وذلك إنما يكون في التاسع والعشرين من الشهر أو الثلاثين منه، أما إذا انفصل القمر عن شعاع الشمس فقد بعُدَ جُرم الشمس فلا تنكسف، فهذا العيد المفروض إن كان عيد الفطر فقد فارق جرمُ القمر الشمسَ بنحو عشرين درجة فلا كسوف، وإن كان عيد الأضحى فقد مضى من الشهر ثلاثة وبقي بين القمر والشمس نحو مائة وعشرين درجة، فالاجتماع أبعد وهذا الفرض محال).

وقد وقع ما صوّره الشافعي في المائة السادسة كما حكاه الحافظ أبو شامة المقدسي في (تاريخه) فزال الشك باليقين.

ولا يعكر هذا على القاعدة الفيزيائية التي شرحها القرافي، لأن ما ذكره هو الأصل والعادة المطردة التي أجراها الله في ملكوته، واجتماع العيد والكسوف نادر قدّره الله خرقاً لهذه العادة والله على كل شيء قدير.

وأيضاً فليس هو بـمحال كما ذكره القرافي عن أهل الهيئة، فلو قُدّر أن الشمسَ قاربت القمرَ في التاسع والعشرين من رمضان، وقدّرنا أن عدةَ رمضان في تلك السنة تسعة وعشرون يوماً، ثم اجتمعت معه في درجة واحدة في اليوم الذي بعده، وهو أول أيام عيد الفطر فأين المحال.؟!

وقد قال النووي في (الروضة) و(شرح المهذب): (وقد نُقل مثل ذلك فقد صحّ أنّ الشمس كسفت يوم مات إبراهيمُ ابن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وروى الزبيرُ بن بكّار في الأنساب أنه توفّي في العاشر من شهر ربيع الأول، وروى البيهقيُّ مثله عن الواقديّ، وكذا اشْتُهر أنّ قتل الحسين رضي اللَّه عنه كان يوم عاشوراء، وروى البيهقيّ عن أبي قَبيل أنه لـمّا قُتل الحسين كسفت الشمس، وأيضاً فإنّ وقوع العيد في الثامن والعشرين يُتصوّر بأن يشهد شاهدان على نقصان رجب، وآخران على نقصان شعبان ورمضان وكانت في الحقيقة كاملة، فيقع العيد في الثامن والعشرين، ولو لم يقع ذلك لكان تصوير الفقيه له حسناً ليتدرّب باستخراج الفروع الدقيقة).

وقال الغزالي في (الوسيط): (إذا اجتمع عيد وخسوف وخيف الفوات فالعيد أولى، وإن اتّسع الوقت فقولان: أحدهما: الخسوف أولى لأنه على عرض الفوات بالانجلاء، والثاني: العيد أولى لأنه سنة مؤكدة ربما يعوض عنها عائق، ولو أنكر منجم وجودَ الكسوف يوم العيد لم نردّه على قولنا إن الله على كل شيء قدير).

وذكر القرافي أنه وقع للمالكية والشافعية مسألة شنّعها عليهم الناس، وهي اجتماع العيد والكسوف فأي الصلاتين نبدأ بـها؟ قال: فأفتى أصحابنا بتقديم الكسوف.

وضابط المسألة ذكره الرافعي وهو أن الأصل في هذا أن ما خيف فواته فإنه مقدّم على غيره، ثم ذكر أن رواية البويطي أنه يبدأ بصلاة العيد لأنـها أوكد لـمشابـهتها الفرائضَ بانضباط وقتها، ثم صحح أنه يُبدأ بصلاة الكسوف، لأنه يعرض لها الفواتُ بالانجلاء.

وذكر في موضع أنه يخطب لهما بعد الصلاة خطبتين، وأقره الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في (مشكل الوسيط) وقال غيره: تجزئ خطبة واحدة عنهما، والله أعلم.

 

مسألة لابن عرفة

ومنه أن الإمام المحقق أبا عبد الله بن عرفة التونسي الورغمّي سُئل عن السكين إذا حمي بالنار ثم طُفي بالماء النجس.!

فأفتى بطهارة السكين لأنـها لا تقبل الماء ولا يدخل فيها، لأن الماء يهيّج الحرارةَ التي حصلت بالنار في داخل الحديد، فإذا انفصلت فلا يقبل الحديدُ بعد ذلك شيئاً يداخله، لكونه جماداً متراصّ الأجزاء فلا يكون فيه ماء نجس والحال هذه، وهذا على مذهب الطبائعيين وأصحاب الكمون، وهو كذلك عند الأشعرية لأن الماءَ سلب حرارةَ السكين فانفصلت النجاسةُ والحرارةُ معاً عن السكين، ذكره الونشريسي في (المعيار).

والكمون مذهب إبراهيم النظام وغيره، فإنه قال إن في كل جسم طاقةً كامنةً فيه تتولد منه بفعلٍ يُطلقها فتتحرر منه، كالنار الكامنة في الحجر بدليل تولّدها من اصطكاك حجرين، وكالزيت فإنه كامن في الزيتون، وهذا عين ما قاله آينشتاين في نظريته المعروفة بالنسبية.!

مسألة ردِّ الشمس

ومنهردُّ الشمس على النبيِّ صلى الله عليه و آله وسلم بعد مغيبها كرامةً لعليٍّ عليه السلام، ذكره أبو جعفر الطحاوي وقال: إنه حديث ثابت، فلو لم يكن رجوع الشمس نافعاً، وأنه لا يتجدد الوقتُ لما ردَّها عليه.

وقد حكى الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد قولين للفقهاء في أن هذه الصلاة بعدما رُدَّت الشمس هل كانت أداءً أم قضاءً؟ وجزم أبو العباس بن تيمية في (نقضه على ابن المطهر) أن الصلاة تقع والحال هذه قضاءً لخروج الوقت، وتبعه الذهبي وغيره.

وقد اختُلف في حديث ردّ الشمس فمن الحفاظ من أنكره سنداً ومتناً، كابن تيمية والذهبي وابن كثير وغيرهم وذكره ابن الجوزي في (موضوعاته).

ومنهم من صححه كأبي جعفر الطحاوي وحكى عن الإمام الحافظ أحمد بن صالح المصري أنه قال: (لا ينبغي لمن كان سبيله العلم، التخلّفُ عن حفظ حديث أسماءَ في ردِّ الشمس، لأنه من علامات النبوة) ونحوه لأبي عبد الله البصري الحنفي الملقب بجُعل.

واختار تصحيحه القاضي عياض والحافظ أبو القاسم الحَكَاني وصنَّف في تصحيحه مسألة مفردة أسماها (تصحيح ردّ الشَّمْس وترغيب النواصب الشُمْس) وكذا جمع الجلال السيوطي في تصحيحه جزء (كشف اللَّبْس في حديث ردِّ الشَّمس) وصححه العلامة حازم القرطاجنّي فقال:

والشمسُ ما رُدّتْ لغير يوشع .... لـمّا دنا ولعليٍّ إذ غفا

ومنهم نور الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر الصابوني في (المنتقى) فإنه قال: (إن المقصود بردّ الشمس ردُّ الوقت حتى تؤدى الصلاة في وقتها) ونظم ذلك السيد الحِمْيَري فقال:

رُدّت عليه الشمسُ لـمّا فاته...وقتُ الصلاة وقد دنتْ للمغربِ

حتى تبلّج نورها في وقتها.....للعصر ثم هوتْ هويّ الكوكبِ

وعليه قد رُدّتْ ببابل مرةً.......أخرى وما رُدّتْ لخلْقٍ مُعْرِبِ

وقول الجلال : إن الصلاة وقعت أداءً وإلا لم يكن لرجوعها فائدة؛ مصادرة على المطلوب، لأن موضع النزاع ثبوت رجوعها من عدمه، والمخالف يحتجُّ للعدم بأن رجوعها لا طائل منه لأن الوقت فات.

ولذا لم يثبت أصلاً أن الشَّمسَ رُدّت لأحد، وقول القرطاجَنّي غلط فإن يوشع عليه السلام حُبِسَتْ له الشمسُ ولم ترجع، فإن رجوعها يقتضي فساد الوقت ويلزم منه تخبط الأمة في شعائرها كالصوم والصلاة والحج والأعياد وغير ذلك، والقول برجوع الشمس مناقض لقوانيين الفيزياء أن النهار إذا أقبل لا يرجع إلى الوراء لا هو ولا شيءٌ من أجزائه، وقطع به القرافيُّ.

وأما احتباسها فلا يلزم منه ذلك لأن غايته أن يكون الزمان قد وقف، فبقي الوقت على حاله لم يزد ولم ينقص، ويحتمل أن يطول وقت العصر بقدر احتباسها وينقص وقت المغرب بقدر ذلك، ولا إشكال في هذا لأنه نظير طولهما وقصرهما في الصيف والشتاء، ونظيره ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أيام لبث الدجال، أن يوماً منها كسنة ويوماً كشهر ويوماً كجمعة عند مسلم في (الصحيح).

مسألة الوضوء بماء البحر

ومنه استدلال من يقول من السلف كابن عمر وابن عمرو وأبي هريرة وابن المسيب بكراهة الوضوء بماء البحر قالوا: لأنه نار.!

فنقضه الموفق بأنه خلاف الحس إن أرادوا أنه نار حالاً، وإن أرادوا أنه يصير ناراً في القيامة، لم يمنع هذا من الوضوء به حال كونه ماءً.

وينبغي أن يكون هذا قولاً لـمُجاهد لأن أهل الخلافيات نقلوا عنه كراهة الوضوء بالماء المسخن، وماء البحر مسخن بأخاديد النار التي تجري في قعره كما قرره الفزيائيون، وهو وجه كراهة من كرهه من السلف.

مسألة اختلاف المطالع في هلال الصوم

ومنه اختلاف الفقهاء المنتشر في أهل بلد رأوا هلال الصوم هل يجب على غيرهم العمل برؤيتهم أو لا؟ وقد قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا صام أهل المشرق وجب على أهل المغرب دون العكس، لأن الله يقول: (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها) ويبعد أن يرى الهلالَ أهلُ المغرب ولا يراه أهل المشرق.

ومن هنا أفتى القرافي في مسألة موت أخوين أحدهما بالمشرق والاخر بالمغرب في وقت واحد في الزوال، هل يسقط التوارث بينهما أولا؟ ومن الذي يرث الاخر منهما؟ فأجاب بأن المغربيَّ يرث، لأن المشرقيَّ مات قبله بيقين، لأن الشمس تزول بالمشرق أولاً.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن لكل إقليم مطلعه كما اختلفت مواقيتهم في مغارب الشمس ومشارقها ، وحكى عن أهل العلم بالنجوم والفلك اتفاقهم على اختلاف مطالع الأقاليم.

ومن هنا أفتى العلامة أبو عبد الله بن أبي موسى الضرير أهلَ الإسكندرية حين سألوه أن الشمسَ تغرب، ومَنْ على منارة الإسكندرية يراها بعد ذلك بزمان كثير، فقال:يحلّ لأهل البلد الفطر، ولا يحلّ لـمَنْ على رأس المنارة إذا كان يرى غروبَ الشمس، لأنّ مغربَ الشمس يختلف كما يختلف مطلعها، فيُعتبر في أهل كلّ موضع مغربه، حكاه الكاساني في (البدائع).

مسألة الأُرجوحة

ومنه ما ذكر أبو حامد الغزالي في (الوجيز) وتبعه أبو القاسم الرافعي في (شرحه) فيمن صلى في أُرجوحة ليست معلقةً بالسقف، ولا مدعمةً بالأرض، فإن في صلاته تفسد.!

وهو نظير الصلاة بالطائرة اليوم مع أن أهل العصر لم يختلفوا فيما نعلم في صحة الصلاة بـها.؟

والوجه أن الغزالي والرافعي قصدا فساد صلاته مع عدم تحقّق استقراره على سطح الأرجوحة لا البطلان مطلقاً، فإنْ تحقّق فصلاته صحيحة، لأن الأرجوحة لا تخلو من الهواء من فوقها وتحتها، فهي معلقة به لأنـها سابحة فيه، ومدعمة به من أسفل، وهو معنى استدراك الألباني على الرافعي، وقد نظم هذه المسألة بعض العلماء الشناقطة فقال:

وقد غَدَتْ من الأمور السائره...بينهمُ صلاتُنا في الطائره

وبعضهمْ مالَ إلى الجوازِ...وبعضهمْ قد كان ذا اشمئزازِ

وهل رأوا ما جاء في كَنّونِ...وما حكى الدسوقيْ والرهوني

يرى الدسوقيُّ وهو من تقدَّمَه...أرضَ المصلي حيثُ كان قدَمُه

وصاحباه كلّ ذا مدارهُ...شرعاً ثبوتُ الجسم واستقرارهُ

أما الذي حَدَّ به ابن عرفه...فالعدويْ يجعله أعلى صفه

وحَدَّ زرّوق بما يقومُ...مقامها نقلٌ لهمْ معلومُ

 

العمل بالرؤية الفلكية في هلال الصوم

ومنه مسألة العمل بالرؤية الفلكية في إثبات هلال الصوم، وفيها نزاع منتشر جداً ولا يكاد ينضبط عند كثير من الناس، حتى ذكر ابن عابدين في (الحاشية) أن علماء الحنفية صرحوا بعدم الاعتماد على قول أهل النجوم في دخول رمضان، لأن ذاك مبني على أن وجوبَ الصوم معلّقٌ برؤية الهلال، لحديث (صوموا لرؤيته).

قال: وتوليد الهلال ليس مبنياً على الرؤية بل على قواعد فلكية، وهي وإن كانت صحيحةً في نفسها، لكن إذا كانت ولادتُه في ليلة كذا فقد يُرى فيها الهلالُ وقد لا يُرى، والشارع علّق الوجوبَ على الرؤية بالقبلة لا على الولادة، هذا كلامه.

والحال أن الهلال له رؤيتان، فلكية حال ولادته ورؤيته العلمية البصيرية، وشرعية حال ظهوره ورؤيته البصرية، وبينهما قدر من الزمان.

والشارع سكت عن الأولى، وعلّق الصوم بالثانية، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ما سكت عنه الشارع فهو مما عفا عنه، وعليه فلا ينبغي أن يرد النزاعُ في العمل بالرؤية الفلكية لمكان سكوت الشارع، ولأنا أجمعنا على العمل بـها في مواقيت الصلاة فالصوم مثله ولا فرق.

ولأن من صام على وفق ولادة الهلال فقد صام رمضان بيقين، ومن صام على رؤية الهلال بالعين فقد عمل بـما كلّفه الشارع به، وكلاهما حقٌّ، إلا أن الصوم بالرؤية والحساب الفلكيين جائز لا واجب، وهو بالرؤية البصرية واجب تخريجاً على نصّ الشافعي في العارف بالحساب على ما سنذكره بعدُ، ولأن الشارع كما مرّ إنما علق الصوم بالرؤية البصرية دون الفلكية.

وتقريره في الأصول أن الرؤية الفلكية من الوسائل التي لم يكن المقتضي للعمل بـها قائماً وقت ورود الخطاب بـها، ولا نزاع بين أهل الأصول في العمل بـها والحال هذه، وهي النُّكتة في سكوت الشارع، من حيث علم أن الناس يستحدثون هذه الوسيلة في وقت من الأوقات، وقد هيّأ لهم أسباب ذلك بلطفه ورحمته، وما كان ربك نسياً.

وقد يمكن أن يكون المقتضي لها قائماً عند غير العرب من الأمم فسكت عنه الشارع لأجل ذلك، ويمكن أن يكون بعض العرب يدري الفلك وحسابه، لكنه نادر لا حكم له، والشارع لا ينيط الحكم بالنادر.

ويحتمل أنه ترك الأخذ بالحساب الفلكي لإغناء غيره عنه وعدم الاحتياج إليه مع وجود ما يغني عنه وهو الرؤية البصرية.

وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصراط المستقيم) جواز الأخذ بما تدعو إليه الحاجة والمصلحة من الوسائل المستحدثة التي كان المقتضي لفعلها قائماً على عهده عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يأخذ به لمعارض قد زال بعد وفاته، وهو يشير إلى أنه عليه السلام علل ترك العمل بالحساب الفلكي بأن الأمة إذ ذاك لا تحسب ولا تكتب، وقد زالت هذه العلة اليوم، فاقتضى زوالُـها زوالَ الحكم المعلّق عليها وهو ترك العمل بالحساب الفلكي.

تنبيه:قد يختلف الليل بين من صام بالرؤيا الفلكية ومن صام بالرؤية البصرية، فيكون عند الأول ليل وعند الثاني نـهار، فيقع الخلاف في مثل ليلة القدر التي تكون ليلة السابع والعشرين عند الأول، وعند الثاني تكون كأنـها في ليلة الثامن والعشرين بالنسبة لما عند الأول، وإن كانت في حقه ليلة السابع والعشرين.

ولا ينبغي أن يجيء الخلاف في هذا، لأنه يقع أيضاً مثله في مسألة اختلاف المطالع إذا عمل كل أهل بلد برؤيتهم، وقد وقع هذا على عهد معاوية واتفقوا على أن لكل أهل بلد رؤيتهم، ولم ينكر أحد على أحد، ولا بلغنا أن بعضهم ادعى أنه أدرك ليلة القدر دون الاخر، فمن لم يسعه ما وسع السلف الأول فلا وسع الله عليه.

 وتفسيره فيزيائياً أن المعتبر إنما هو نفس الليل الذي هو نصف الزمان بالنسبة لأهل البلد الواحد، وهو زمان تام بالنسبة إلى مطلق الوقت، كالنهار سواء لأنـهما يتعاقبان، دون نفس الليلة التي هي جزء الليل، والليل يعم الأرض ولابد، لكنه يتفاوت ويختلف في الوقت من بلد لاخر بحسب القرب والبعد عن مركز الأرض.

وليس في كتاب الله حصر ليلة القدر في جزء من الليل، بل الذي فيه أنه أطلقها فيه فينبغي أن تقع في الليل كله، ويكون تسميتها بالليلة من إطلاق الجزء وإرادة الكل، بدليل قوله تعالى (سلام هي حتى مطلع الفجر) فعُلم أنـها تستمر إلى طلوع الفجر، فالفجر هنا نسبي وهو المختص بأهل كل بلد حسب مطلعهم ومغربـهم.

فيلزم أن تكون ليلة القدر مستمرة في سائر اليوم، وبالتالي يدركها ولابد من صام على الرؤية الفلكية ومن صام على الرؤية البصرية جميعاً سواء، كما يدركها من كان أول الشهر عنده اليوم، ومن كان أول الشهر عنده غداً لاختلاف المطالع، لأن القدر المتفاوت في الزمان بينهما يسعه الليلُ بيقين.

ويمكن أن يخرج الجوابُ على أصل أبي حنيفة أن ليلة القدر متنقلة في سائر الشهر وهو وجه للشافعية حكاه الغزالي والله أعلم.

مسألة العارف عبد الرحيم

ونظير ذلك ما حكاه القرافي في (اليواقيت) أن العارف بالله عبد الرحيم القنائي وكان مشهوراً بالكرامات والصلاح، صلى بأصحابه الظهر، ثم بعد انقضاء صلاته زالت الشمسُ في رأي العين.!

فأنكر عليه الفقيه شيث القنائي، فقال الشيخ عبد الرحيم: سمعتُ حِسَّ حركة الشمس عند زوالها وسط السماء قبل أن تظهر في الأرض.!

فقضى بصحة صلاته بعضُ العلماء من حيث إنه صلى بعد الزوال، ونازعه الفقيه شيث والقرافي وغيرهما وأفتوا بالقضاء.

وتعليله فيزيائياً أن الزوال نوعان، أحدهما فلكي خفيّ وهو الذي في السماء ولا يطلع عليه إلا الملائكة أو الأولياء بطريق الكشف أو علماء الرصد بالتلسكوبات الدقيقة، والثاني ظاهر وهو زوالها للرائي بالعين، وهذا هو الذي جعله الشارع سبباً للتكليف وليس الأول.

وبعد تسليم صحة هذه الكرامة فالذي ينبغي أن يقع الحكم عليه أن يقال إن صلاة العارف صحيحة لوقوعها بعد الزوال، ولأن الكشف حق حتى لقد رأيتُ في فتيا لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه أثبت الكشف وحققه وعدّه من المصالح المرسلة، وحكى السفّاريني أن بعض العلماء أثبته طريقاً للاهتداء إلى معرفة المهدي الحق في آخر الزمان.

لكن لا ينبغي إشهار ذلك وإظهاره في العامة لما فيه من فساد المواقيت الظاهرة التي كلّف الشارعُ الناسَ بالعمل عليها وأناط الأحكام بـها، وقد كتب الإمامُ العلامةُ أبو الوفاء بن عقيل البغدادي الحنبلي رسالةً إلى الشيخ العارف بالله سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه ينصحه أن يخفي العملَ بما ظهر له بطريق الكشف إذا عارض ما تقرر في الأحكام الشرعية، فيعمل به في خاصة نفسه دون العامة كالعمل بالرؤيا المنامية للرائي.

وقد قال الشافعي في رواية المزني: لو غمّ على الناس رؤيةُ الهلال فعرف حسابيٌّ دخول الشهر بالحساب فله أن يعمل به دون غيره، هذا معنى كلامه وإنما أراد الاحتياط عن فساد صوم الناس بالحساب الذي هو ظن، فيستبدلونه بالرؤية التي هي يقين، فضلاً عمّا يتضمنه الحسابُ من إلغاء حكم الشارع الأصل إذا اتّسع الناس في العمل به.

وقد أخذ أبو العباس بن سريج وغيره من الشافعية كالقفال والقاضي أبي الطيب الطبري والسبكي الكبير من كلام الشافعي أنه يسوغ العملُ بالحساب للعارف به، ويصوم الناس عليه إن تعذّر عليهم رؤيةُ الهلال بالبصر، وهو قول مطرف بن الشخير ومحمد بن مقاتل وابن قتيبة وحرب الكرماني من الحنابلة وبعض مالكية بغداد والإمامية، وأفتى به العلامة بخيت المطيعي وعالم لبنان عبد الله العلايلي والشيخ الزرقا وانتصر له الحافظ أبو العباس الغماري في (توجيه الأنظار).

مسألة أبي حنيفة

ومنه ما فرضه الإمام أبو حنيفة في مسألة نكاح المشرقي بـمغربية وعقده عليها حتى لو كان بينهما ولد فإنه يلحقه، وهي من المسائل التي شنّع بـها ابن الـمُطهر الحلي على أهل السنة فقال: (وإلحاق نسب الـمشرقيّة بالـمغربيّ، فإذا زوّج الرجلُ ابنته وهي في المشرق برجل هو وأبوها في المغرب ولم يفترقا ليلاً ولا نـهاراً حتى مضت مدة ستة أشهر فولدتِ البنتُ في المشرق التحق الولدُ بالرجل وهو وأبوها في المغرب مع أنه لا يُمكنه الوصول إليها إلا بعد سنينَ مُتعدِّدة).

هذا كلامه في كتابه الذي أسماه (منهاج الكرامة) والمسألة من مفاريد أبي حنيفة، وقد حكي عن الشافعي أنه علّق لحوق الولد وثبوت النسب بإمكان الوطء.!

وهذا قد يتخرّج على نسبية آينشتاين إذ الفرض أن الزمن ينكمش كلما زادت سرعةُ الجسم كواقعة الإسراء والمعراج، فقدّر أبو حنيفة رحمه الله أنه لو خرق عادةَ الزمان بركوب دابة فائقة السرعة لأمكنه ذلك وصحّ العقد.

وقد فرض آينشتاين والفيزيائيون أن جسماً ما لو قُدّر له أن يصل في سرعته إلى سرعة الضوء، فإن كُتلته تتلاشى حتى يصبح غيرَ مرئيٍّ وينعدم قانون الزمن في حقه، لأن الزمن ينكمش كما مرّ كلما ازدادت سرعةُ الجسم وتتقلص كُتلته، وتتضاعف طاقتُه أو تتحرر، إذ الطاقةُ ناتجة عن حاصل ضرب مربع سرعة الجسم في كُتلته.

وقد يصلح هذا تفسيراً علمياً لكرامات الأولياء كالذي نقله الذهبي وابن كثير وابن رجب وغيرهم عن أسد الشام اليونيني وغيره كالجيلاني وغيره، أنه كان ربما طلع عليه الفجر بالعراق أو بالشام فيدرك الصلاةَ بمكة أو المدينة، كما هو متواتر عنهم مستفيض نقلُه في التواريخ الطباق، ولا نعلم من أنكره إلا بعض المعتزلة وحكي عن الأستاذ أبي إسحق الإسفراييني.

وقد علل الفقهاءُ من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم وجه قوله من جهة النظر بما ليس بسطه مقصوداً في هذا الموضع، وإنما غرضنا تعليله فيزيائياً كما مرّ، فإن أقل الناس عقلاً يعلم أن إمكان الوطء إذ ذاك مستحيلٌ عادةً فكيف بأبي حنيفة وهو من أذكياء العالم.!

ومن جهة أخرى فإن افتراض المحال الذي يقطع العقلاءُ باستحالة وجوده عبثٌ، ولو لم يكن أبو حنيفة يعلم بإمكان ذلك في قابل الزمان ما فرضه فإنه كما قال الرشيد: (رحم الله أبا حنيفة، لقد كان يرى بعين عقله ما لا يرى بعين رأسه)! فصح بيقين أن هذه المسألة من مفاخر أهل السنة، وبطل ما شنّع به ابن الـمطهر.

وقد فرض النظريةَ النسبية قبل آينشتاين شيخُ السنة أبو الحسن الأشعري والإمامُ الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالة (الجزء الذي لا يتجزأ) وفي كلامه على حركة الشمس في (الفِصَل) وغيره. 

مسألة الأولياء

ونظيره مما يتخرج على النظرية النسبية ما صوّره بعض الفقهاء أن وليّاً من الأولياء كان حال زوال الشمس في المشرق، فطار إلى المغرب وأدرك الشمسَ لـمّا طلعت، فهل يجوز له أن يصلي الظهرَ بالمغرب بناء على ما لابسه من الزوال بالمشرق أم لا.؟

فأفتى بأنه مخاطب بزوال البلد الذي توقع فيه الصلاة لأنه صار من أهلها، وأهل كل بلد مخاطبون بزوالهم وأوقاتـهم بحسب أحوالهم.

حكاه القرافي وقال: وكذلك إذا حصل الكسوف في قطر لا يلزم أهل القطر الاخر الذي لم تكسف فيه الشمسُ أن يصلوا صلاةَ الكسوف.

قال: وهو يؤيد قول الفقيه شيث في مسألة العارف عبد الرحيم، ويعكر على مشهور مذهب مالك أن الهلال إذا ثبت ببلد لزم أهل الأرض أن يصوموا، والشافعي يقول لكل قوم رؤيتهم وهو الصحيح من جهة النظر، وهي مسألة اختلف فيها الصحابة وكذلك من بعدهم، والصحيح أن لكل بلد رؤيتهم كما فهرس عليه البخاري وذكر قضيةَ معاوية بالشام ومخالفة ابتداء صيامه لابتداء صوم أهل المدينة في تلك السنة، وقياساً لوقت الصوم على أوقات الصلوات، فانعقد الإجماعُ على أن لكل قوم زوالهم وفجرهم وكذلك لكل قوم هلالهم وهو متّجه جداً، هذا كلامه.

الوضوء بالماء المتغير بطاهر

ومنه مسائل الوضوء بالماء المتغير بطاهر، وضابط الفصل ذكره النووي في (الروضة) أن ما يسلب اسم الماء المطلق يمنع الطهارة به، وما لا فلا.

وتخريجه على قول الفيزيائيين إن الماء عديم اللون والطعم والرائحة، وهو صحيح إذ ليس مرادهم سلب اللون والطعم والرائحة عن الماء مطلقاً، بل سلب لون وطعم ورائحة الأعيان العامة عن الماء، واختصاص الماء بلون وطعم ورائحة لا تشبه غيره من الألوان والطعوم والروايح.

فإذا خالطه غيره من الأعيان فتغيّر به لون وطعم ورائحة الماء الخاص به حتى أخرجه عن حدّ الماء المطلق، عُلم أنه ليس بماء والحال هذه، فلا يجوز الوضوء به كماء والورد ونحوه.

ونزاع من نازع من الفقهاء في هذا الفصل كأبي حنيفة وهو اختيار ابن عقيل وابن تيمية أنه يجوز الوضوء به إن خالطه طاهر لم يُخرجه عن وصف الماء، بمعنى أنه لم يسلبه رقّةَ الماء وجريانه، لم يكن لنزاعهم في الأصل الفيزيائي، لأنـهم يقرّونه فيقولون هو ماء مضاف لم يُخرجه ما خالطه عن إطلاق اسم الماء عليه ولا منع منه، فيعمّه قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهو نكرة في سياق النفي فتعم كل ماء مطلق ومضاف كماء الورد، ولا يستثنى من عمومه إلا ما سُلب عنه اسمُ الماء مطلقاً كالمرق ونحوه.

وعليه يجوز الوضوء بالماء المكرر وهو ماء الصرف الصحي الذي جرت تنقيته بتكريره ومعالجته بما يعيد له صفة الماء من الرقة والجريان، فضلاً عن اللون والطعم والرائحة والله أعلم.

المسألة البُرغالية

ومنه ما نقل القرافي في كتابه الذي صنّفه في المواقيتأن فتيا وردت من بلاد البرغال من الإقليم السابع، إلى بخارى فيها أن رمضان جاء وطول الليل نحو ثلث ساعة، فإن اشتغلنا بالفطر طلع علينا الفجر قبل أن نصلي المغرب والعشاء، وإن اشتغلنا بالصلاة فاتنا الفطر لضيق الزمان، فأيهما يُبدَّأ.؟

فأفتاهم فقهاء بخارى بالاشتغال بالفطر وتفويت الصلاة، لأن مصلحة الأجساد مقدمة على العبادات بدليل المريض يسقط عنه الطهارة وأركان الصلوات والصوم وغير ذلك، وصححه القرافي.

والبرغال هي بلاد بلغاريا اليوم من نواحي أوربا الشرقية، وبه ينتقض على إنكار الشيخ تقي الدين الهلالي وقوعَ ذلك وأنه وهم كما قاله في رحلته إلى النرويج والسويد المسماة (الشمس في نصف الليل).

وهذا نظير ما يقع في بعض البلاد الأوربية أن الوقت عندهم بين العشاء والفجر في رمضان لا يتسع لصلاة التراويح، فيلحقهم لأجله نوع مشقة وحرج، فأفتاهم بعضُ فقهاء الوقت ممن يقيم بتلك البلاد بجمع المغرب والعشاء جمعَ تقديم منهم الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع وغيره، وعللوه بأن الشفقَ لا يغيب عندهم فقد صار وقت الصلاتين واحداً.

وقد وقع أن أبا محمد الجويني والد إمام الحرمين سُئل عن قطر يطلع فيه الفجر قبل غروب الشفق فكيف العمل في صلاتي المغرب والعشاء.؟

فأفتاهم أن لا يصلوا العشاءَ حتى يغرب الشفقُ، ويتحروا بصلاة الفجر وقتَ من يليهم من البلاد.

وقد ذكر في (شرح المهذب) عن أبي سعيد المتولي أنه قال في (تتمة الإبانة): (في بلاد المشرق نواح تقصر لياليهم فلا يغيب الشفقُ عندهم، فأوّل وقت العشاء عندهم أن يمضي من الزمان بعد غروب الشمس قدرٌ يغيبُ الشّفقُ في مثله في أقرب البلاد إليهم).

وهذا كما قال الشيخ نجم الدين ابن الرفعة في (شرح التنبيه) كعادم القوت المجزئ في الفطرة في بلده، فإنه يعتبر قوتَ من يليه من البلاد، ونحوه للقاضي حسين في (فتاويه) ذكره أبو القاسم الرافعي في (الشرح الكبير).

وهو أليق من قول الشيخ أبي محمد أعني اعتبار توقيت من يليهم من البلاد، وقد وقع في خبر الدجال عند مسلم أنـهم سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا: فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: (لا، اقدروا له قدره).

وذكر القنوجي هذه المسألة في (لقطة العجلان) فقال: بُلغار بضم الباء الموحدة فسكون اللام والألف بين الغين المعجمة والراء، وضبطه في (القاموس) بلا ألف وقال: العامة تقول بلغار، وهي مدينة الصقالبة ضاربة في الشمال شديدة البرد انتهى.

يطلع الفجر فِيهَا قبل غروب الشفق وقت العشاء والوتر، ففاقدها مُكلّف بالصوم والصلاة، ويُقدِّر الوقتَ كما في أيام الدجال، والمراد بالتقدير ما قاله الشافعية من أَنه يكون وقت العشاء في حَقِّه بقدر ما يغيب فِيه الشفقُ في أقرب البلاد إليه، وهو قول البرهان الكبير والكمال ابن الهمام وابن الشُحنة والتُّمْرُتاشي.

وحكي عن البقَّالي أنه غير مُكَلَّف بـالصلاة والصوم لعدم السبب قياساً على الحائض، و وافقه الحلواني وظهير الدين المرغيناني وطاهر بن سلام الخوارزمي والصدر الكبير وغيرهم، وبه جزم في (الكنز) و(الدرر) و(الملتقى) ورجحه الشُّرُنْبُلالي والحلبي.

وتعقب الحصكفيُّ الاستدلال بحديث الدجال بأنه وإن وجب أكثر من ثلاثمائة ظُهرٍ مثلاً قبل الزوال فليس كمسألتنا، لأن المفقود فيه العلامة وهي غياب الشفق لا الزمان، أما في مسألة الدجال فقد فُقد الأمران.

قال جامعه: وهو صحيح لكن لا يعكر على الاستدلال منه بالقدر الذي تتعلق به مسألتنا وهو فقدان العلامة، فيصار إلى التقدير لأنه مظنة الحكم عندئذ، وإذا خفيت العلة يصار إلى التعليل بالمظنة، فتأمل.

ولذا قال الشامي إنه لم يذكر حديث الدجال ليقيس عليه مسألتنا أو يلحقها به دلالة، وإنما ذكره دليلاً على أن الصلوات الخمس مفروضة وإن لم يوجد السبب افتراضاً عاماً، ومن لطائف الترجيح في المسألة أن بعض الحنفية رجح القول بالوجوب بأنه قد قال به إمام مجتهد وهو الشافعي.

وقياس البقالي المسألةَ على الحائض بجامع عدم سبب الوجوب يكسره أن فوات الواجب لتعذر تحصيلة بعلة لزوم السبب في الحائض وتعذر زواله فسقط الوجوب عنها للتعذر، بخلاف مسألتنا فإن تحصيل الواجب ممكن بالتقدير وإن تعذر سبب الوجوب، ولذا أمرهم بالتقدير في مسألة الدجال، وههنا أصل وهو أن الحكم لا يفوت مطلقاً لعدم سبب الوجوب، وإنما يسقط الحكم بمجموع الأمرين عدم السبب وتعذر تحصيل الحكم المعلق عليه، فمتى أمكن تحصيل الواجب فقد وجب وإن عدم سببه، ولذا فإن الشارع يعلِّق الحكم عند عدم سببه بالحكمة أو المظنة.

وقد ذكر القنوجي أن الشهاب هارون المرجاني البلغاري صنف في الانتصار للقول بالوجوب رسالة مفردة أسماها (ناطورة الحق في فرضية العشاء وإن لم يغب الشفق) واحتج بخبر الدجال في المسألة وزيف قول من قال بسقوط التكليف، بوجوه منها أن إسلام البلغار كان بدأ زمان بني أمية ثم انتشر زمان المأمون ثم ظهر فيهم زمان المقتدر بإسلام ملك البلغار الماس خان بن سلكي خان، وكان ذلك قبل كلام البقالي والمانعين من الوجوب في المسألة فكيف خفيت على من قبلهم من الفقهاء فلم ينقل عنهم البحث فيها مع كونـها من المسائل التي تعم بـها البلوى.؟!

وقد كان فيهم من علمائهم جماعة قبل عصر البقالي والحلواني وبعده، مثل عبد الحي ووالده عبد السلام والقاضي أبو العلاء حامد بن إدريس والقاضي يعقوب ابن نعمان مؤرخ بلغار وغيرهم،وبالله تعالى التوفيق.

وبه يقع الجواب عن ما أورده الهلاليُّ في (الرحلة النرويجية) ووصفه البلاد هناك بأنـها لا تغيب فيها الشمس! ثم ذكر أنه سئل: هل يُحكم عليها بأنـها ليلة تصلى فيها المغرب والعشاء والصبح عند نـهايتها! ويفطر الصائم ويتسحر فيها، ويصوم نـهارها، ويصلي الظهر والعصر في وسطه، أم يستمر على اعتبار توقيت العاصمة أوسلو ويعتبر الليل ليلاً، والنهار نـهاراً.؟

ثم ذكر امتناعه عن جواب حكم ما لم يقع من المسائل كما هو مذهب بعض السلف، وأجاب عما وقع منه بأنه يجب عليه أن يجتهد في حكم أوقات الصلاة فيها، كذا أطلق وقد مرَّ تحرير الجواب عنه وبالله التوفيق.

مسألة في طريق معرفة ذهاب البصر

ومنه ما ذكره الفقهاء فيمن ضُرب على رأسه ضربةً أتلفت بصرَه، فاختلف العارفون من أهل الخبرة في ذهاب بصره كلية؟ أنه يوقف في عين الشمس فإن طرفت عيناه أو غشيها نورُ الشمس فانزعجت منه، فبصره باق والحال هذه، وأمكن أن  يعود بنوع علاج، فلا تجب فيه دية.

وهذا على قول الفيزيائيين كما قرره الحسنُ بن الهيثم إن العين لا تبصر بنفسها، وإنما ترى بانعكاس الضوء وارتداده منها بتسلطه عليها.

أصول الطهارات

أصول جميع علم الطهارة مردّه عند الفقهاء إلى أربعة: النار والهواء وهو الأثير والماء والتراب، وهذه الأربعة العناصر هي أصول المادة عند جميع الفيزيائيين إلا ما حُكيَ عن إنكساغورش فإنه زعم أن النار والأثير شيءٌ واحد، حكاه القاضي أبو الوليد بن رشد في (الآثار العلوية).!

وهذا من جهة أن أوائل هذه العناصر أربعة لا خامس لها وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.

فالماء ظاهر، والتراب كذلك في التيمم، وفي غسل ما ولغ فيه الكلب من الآنية، وتطهير الثوب الذي مرّ على نجاسة فيُطهّره ما بعده من التراب كما في الحديث وغير ذلك.

وكذا الهواء بالجفاف كتطهير الأُهب والجلود والماء الذي وقعت فيه نجاسة فذهب أثرها بالريح، وكذا الشمس بالجفاف أو باستحالة النجس بتأثير شعاع الشمس المتسلط على موضع النجاسة في أرض أوعين أو فراش كما هو مذهب جمهور الحنفية إلا زُفر، وكتطهير الجلّالة، واستحالة العذرة، وكذا الخمر إذا استحالت خلّاً بنفسها، وطهارة البلغم الذي يخرج من الجوف باستحالته، واستحالة الدم إلى منيّ فيطهر عند الشافعي وأحمد وغير ذلك والله أعلم.

 

مسألة الماء المشمس

وهي من أفراد الشافعي فإنه كره الوضوء به من جهة الطب لأنه يورث البرص ووافقه من الحنابلة أبو الحسن التميمي.

وتنازع أصحاب الشافعي في معنى قوله على وجوه، والقدر الذي يتعلق ببحثنا هنا وجهان: أحدهما: هو ما قيل باختصاص الكراهة بالأواني المنطبعة، على ما حكاه الإمام في (النهاية) عن الأصحاب.

ووجّهه الإمامُ بأن سببه أن حرارةَ الشمس تفصل من هذه الأواني أجزاء لطيفة تعلو الماء، فإذا لاقت البدن أثّرت البرصَ، واستثنى الإمامُ والغزاليُّ الذهبَ والفضةَ لصفاء جوهرهما.

وهو قضية نقل المتولي فإنه خصّ الكراهةَ بالأواني الصفرية والنحاسية كالقاضي الحسين في (تعليقه) وحكى الإمامُ عن والده أنه طرده فيما ينطبع وينطرق من الأواني، وطريقة الشيخ أبي بكر الصيدلاني تخصيصه بالنحاس بالاعتبار من بين سائر الأجناس.

الثاني:حكاه القاضي حسين المرْوَرُّذي في (تعليقه) أنه إنما يكره الوضوء بالماء المشمس إذا كان في البلاد الحارة في الصيف الصائف.

وهو صحيح موافق لما تقرر في أصول الفيزياء أن الشمس في البلاد الحارة في الصيف تزداد فيها الأشعة فوق البنفسجية المنبعثة من شعاعها، والتي هي نتيجة تفاعلات نووية تزيد من تأثيرها على الجسم والجلد.

ومن هنا كره الشافعية وغيرهم استقبال الشمس في الاستنجاء وفيه خبر لا يثبت، وتعليله عندهم أن تسلّط شعاعها على فرجه يضرّ به إذا استقبلها المتخلي، ومن هنا قطع ابن الصلاح في (مشكل الوسيط) بضعف الاستدبار لعدم وجود هذا المعنى فيه، اللهم إلا أن يكره أدباً كما في (المغني) وغيره.

لا يقال إن نسبة الأشعة فوق البنفسجية في ضوء شعاع الشمس لا تزيد على 9% منها، لأن الأصل في قانون الفيزياء أنه كلما زادت موجة الضوء انخفضت طاقته ، وعليه فتأثير الأشعة فوق البنفسجية أشد من تأثير الأشعة الحرارية وهي الأشعة تحت الحمراء لأن موجة الأخيرة أزيد.

فإذا تسلطت على الماء انحلت فيه أجزاء من أثر التفاعل النووي الذي نتجت عنه، وهو وإن كان يسيراً إلا أنه يقوى وينشط أثرُهُ في شدة الحر، وقد يصيب بالبرص بعضَ الناس ممن تضعف عندهم مناعةُ الجلد، فيستحب لهم اجتنابُ الوضوء به حتى يبرد بالهواء، ولذا فإن هذا الأثر لا يضر ماءَ البرك الذي يسخن بالشمس، بفعل الريح والله أعلم.

ويقويه من جهة الفيزياء أيضاً قاعدة انكسار الضوء في الماء، لأن سرعته تقل باختراقه الماء لكثافته، فينكسر نتيجة انتقاله من وسط ذي كثافة أقل وهو الأثير، إلى وسط أشد كثافة منه وهو الماء، وبالتالي تتحلل أجزاؤه في الماء كما قاله الإمام.

مسألة في الخمر إذا استحالت خَلّاً

وفيه للفقهاء نزاع مشهور في طهارتـها وإباحة الانتفاع بـها، ثالثها الفرق بين أن تتخلل بنفسها أو بفعل كما لو أُلقي فيها شيءٌ استعجالاً للحموضة، أو نقلها من الشمس إلى الظل والعكس.

وقد قال عمر رضي الله عنه على المنبر: (لا يحِلُّ خَلُّ خمر أُفسدت حتى يكون اللّه تعالى هو تولّى إفسادها) قالهبـمحضر الصحابة فلم ينكره عليه أحد منهم فكان إجماعاً كما قاله الموفق.

والوجه فيه أن الخمر لا تنقلب خلاً حتى تمرَّ بثلاث مراحل هي الحلاوة ثم الشدّة ثم الحموضة، فإن استحالت خلاً بنفسها فقد تعدت مرحلةَ الشدّة فلم تمرّ بـها، وانقلبت من الحلاوة إلى الحموضة بأثرٍ خلقه اللهُ فيها.

وإن انقلبت بفعل ما يُلقى فيها مما يُحيلها أو بأثر الشمس أو الظل فقد مرّت ولابد بـمرحلة الشدّة وهي أثر الإسكار، فمن هنا نـهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها كما رواه الترمذي وغيره.

وهذا الذي يقال له عند الفيزيائيين التسامي أو الحيود عن التسلسل الطبعي للمادة، فتنقلب من حال إلى حال مغايرة للأولى دون المرور بحال وسط بينهما، كانقلاب المادة الصلبة إلى غاز دون سيلان.

وهو نظير مذهب الطفرة الذي قال به كبير المعتزلة أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام وهو مذهب عسر على كثير من المتكلمين حلُّه حتى قال قائلهم:

مما يُقال ولا حقيقة تحته...........معقولةٌ تدنو إلى الأفهامِ

الكسبُ عند الأشعريِّ والحــــــــــــــــالُ عند البهشميِّ وطفرةُ النّظّامِ

مسألة من السلم

قال في (المغني): (فإن كان الـمُسلَمُ فيه مما لا يمكنه وزنه بالميزان لثقله كالأرحية والحجارة الكبار، يوزن بالسفينة، فتُترك السفينة في الماء، ثمّ يُترك ذلك فيها، فينظر إلى أي موضع تغوص فيعلّمه، ثم يُرفع ويُترك مكانه رملٌ أو حجارة صغار، إلى أن يبلغ الماءُ الموضعَ الذي كان بلغه، ثمّ يوزن بميزان، فما بلغ فهو زنة ذلك الشيء الذي أُريد معرفة وزنه).

وهذا مخرّج على نظرية الإزاحة لأرخميدس، وحاصلها أن وزنَ الماء المزاح بسبب انغماس جسم ثقيل فيه، يساوي وزنَ ذلك الجسم ويعادله.

وكان أرخميدس قد كلّفه ملكُ وقته أن يبحث له عن أمر تاجٍ كان قد صنعه له بعضُ الصاغة، فشكّ الملكُ أن الصائغَ غشّه في التاج فمزج مع الذهب نُحاساً، فطلب من أرخميدس كشفَ الأمر دون إتلاف التاج.

وبينا أرخميدس يغتسل، فطن إلى أن جسمه قد صار أخفَّ وزناً في الماء، وأن منسوبَ ماء حوض السباحة قد ارتفع حين غمس جسمَه فيه، بدليل أن الماءَ رفعه إلى أعلى! فأدرك أن وزنه قد انخفض بقدر وزن الماء المزاح.

واهتدى إلى حلِّ لُغز التاج بوزنه ثم غمره في الماء، فإنه يزيح من الماء بقدر وزنه خارجه، ثم جاء بذهب خالص له نفس كُتلة التاج، فوزنه في الخارج ثم غمره في الماء، فأزاح منه بقدر وزنه، وتبين أنه أزاح من الماء قدراً أكثر مما أزاحه التاج، فطرح ما أزاحه التاج من الماء، من القدر الذي أزاحه الذهب، فظهر له حجم ما مزجه الصائغ من النحاس في التاج.

وكأن الإمام أشار إلى نظرية أرخميدس هذه في باب زكاة الورق من (النهاية) في مسألة زكاةفضة مخلوطة بذهب، وكان مقدار كل واحد منهما مجهولاً، بقوله: (ثم ذكروا هندسةً في الاطلاع على مقدار الذهب والفضة من ذلك المختلط، وهي معروفة).!

وقد ذكرها أبو حامد الغزالي في (البسيط) والحافظ أبو عمرو بن الصلاح في (مشكل الوسيط) فقال: (طريق آخر ذكره في البسيط عن الأصحاب فيه نوع هندسة، وهو أن يلقى ذلك فيإناء من ماءبحيث يعرف به مقدار ما فيه من كل واحد من الذهب والفضة، وذلك أن الذهب أجزاؤه أشد تراصّاً واكتنازاً من أجزاء الفضة، فيتفاوت ارتفاع الماء، فيوضع فيه من الذهب الخالص قدر الإناء المخلوط في الماء، ويحكم الموضع الذي ارتفع إليه الماء، ويضع فيه من الفضة الخالصة مثل ذلك، ويعلّم على الموضع الذي ارتفع إليه الماء أيضاً، ثم يوضع الإناء المخلوط في ذلك الماء وينظر إلى ارتفاع الماء به، فإن كان أقرب إلى علامة الذهب الخالص دلّ على أن الذهب فيه هو الأكثر، وإن كان بالعكس فعلى العكس).

مسألة من المواقيت

ذكروا أن ببعض بلاد عمان قرى يكون النهار بـها شتاءً قدر خمس ساعات أو أدنى! وذلك أنـهم محاطون بالجبال من كل الجوانب، فالشمس والحال هذه تطلع عليهم متأخرة وتغرب عنهم عن قريب، وفي صومهم وجهان:

أحدهما:أن يراقبوا مواقيت من بحذائهم من البلدان كما مر.

الثاني:ذكره أبو حامد في (الإحياء) وهو مخرّج على قول أهل الفيزياء الفلكية وهم أهل الهيئة، فإنه قال: (وأما وقت المغرب فيدخل بالغروب، ولكن قد تحجب الجبالُ المغربَ عنه، فينبغي أن ينظر الى جانبَ الـمشرق فمهما ظهر سواد في الأفق مرتفع من الأرض قدر رمح فقد دخل وقت المغرب، وأما العشاء فيُعرف بغيبوبة الشفق وهو الحمرة، فإن كانت محجوبة عنه بجبال فيعرفه بظهور الكواكب الصغار وكثرتـها فإن ذلك يكون بعد غيبوبة الحمرة).

وقد نظم هذا الضابط العلامة محمد عالي كما أنشده العلامة الددو:

إنْ حجَبَتْ عنكَ الجبالُ المغربا...فانظرْ إلى الأُفْقِ فحيثُ ذهبا

في المشرق السوادُ قدرَ رُمحِ...فذلك الوقتُ بغير قدْحِ

وإنْ تكنْ تحجُبُ عنكَ الشَّفَقا...فبالكواكبِ الصغارِ حقِّقا

وقتَ العشاءِ ومن الإحياءِ...ما قلتُ في المغربِ والعشاءِ

وهذا ما تيسر لي جمعه مما أحفظه من مسائل الفقهاء الـمـُخرّجة على قوانين الفيزياء، في جواب سؤال من سأل عن اعتبار هذا المعنى عند الفقهاء في مسائلهم، ولو انتدب بعض المعتنين من أهل التحصيل في تقصي ما وقع للفقهاء من هذا المعنى وبحثه ودراسته فهو حسن.

وبـما ذكرناه يندفع اعتراض بعض الغلاة من المتفقهة ممن جازف وحجر واسعاً بإنكار اعتبار الفقهاء للعلوم الطبعية في استنباط الأحكام للنوازل، ومنهم من أغرق في الجهالة وركب أحموقة فزعم منع تعلّمها وتعليمها بحجة أن السلف لم يستعملوها، فقد استبان بـما أوردناه في هذا الجزء جهلُه، على أنـهم إنما أهملوها لعدم الاحتياج إليها في زمانـهم كما قال بعض العلماء الشناقطة فيما أنشده عنه العلامة محمد الحسن الددو:

إنّ من العلوم ما اشتدَّ الوَطَرْ....إليه حتى إنّ تركَهُ خَطَرْ

مقايسُ الحرارةِ الـمُقتَبَسةْ....والكيميا والفيزيا والهندسةْ

وإنـما أهملها الصحابةْ......وتابعوهمْ من ذوي الإصابةْ

إذْ ليس عصرُهم بالافتقارِ......لها كمثلِ هذه الأعصارِ

والله أعلم

آخره

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبيينا محمدوآله وأصحابه وسلم تسليماً.

 

كتبه

أبو جعفر

بلال فيصل البحر

بالقاهرة/1437

   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter