شذراتٌ في فقه الإفتاء :
الشذرة الأولى في مناهج الإفتاء ، وهي أربعةٌ إجمالاً وكالتالي :
الأول : منهج التشديد والتغليظ : ويرى أتباع هذا المنهج أن الشدّة هي الأنسب بأحوال أفراد الأمة ، و أدعى إلى ردها إلى دينها ؛ بسبب ما يرونه من انحلال وتسيّب في اتباع دين الله تعالى .
الثاني : منهج التسهيل والتيسير : ويرى أتباعه أنه المنهج الأرفق بالأمة وأدعى إلى ردّها إلى دينها (أيضاً) ، حيث إن الشدة تنفير وتعسير لا يُقرّه الشرع ، ولهذا المنهج مؤيدون أكثر من المنهج الأول .
الثالث : منهج التوسط والاعتدال : ويظن أكثرُ المسلمين أنه المنهجُ الأنسبُ والأقوى والأصلح لأفراد الأمة ، وأنه – بظنهم - هو منهج النبي ﷺ ، إلا أن هذا المنهج في حقيقته لا يُسَلّم لسالكِه استصوابُه ، ولا يُؤمَن من الله عقابُه ؛ لأنه عند التحقيق والنظر الدقيق أكثرُ المناهجِ الثلاثة عُرضةً للمداهنة ، وتطويع النصوص بما هو خارج عن معانيها ومقاصدها ؛ لأن سالكه يجعل التوسط أصلاً يُخضع كل النصوص لمقتضاه .
الرابع : إعطاء كل نازلة او مسألة حقها من التعامل المناسب من شدة او تيسير أو توسط ، وذلك بحسب النظر الدقيق والفاحص لمنظومة الإفتاء التي بين يدي المفتي (وهي النظر في : الدليل ، والمستفتي ، والظرف الذي وقعت فيه النازلة) ، فقد تستلزم مسألةٌ ما تغليظاً ، وتستلزم أخرى تسهيلاً وتخفيفاً ، وهذا في الحقيقة هو المنهج النبوي في التشريع ، فقد كان ﷺ يُغلّظ على إناس غلظة شديدة يستحقها المقام كما في حادثة العُرنيين ، إذ قطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم حتى ماتوا ، فهذا مقام لا يصح فيه التخفيف ولا التوسط ، وفي حوادث أخرى كان النبي ﷺ يسلك منهج التخفيف والرحمة والصفح .
فهذا (أعني المنهج الرابع) هو المنهج الأرسخ والأصلح والأسعد بالصواب ، وهو الذي ينبغي للعالم الرباني سلوكه واتباعه على الدوام .
الشذرةُ الثانية من شذرات فقه الإفتاء ، وهي موجهةٌ للمتصدرين للفتوى :
ينبغي للمتصدر للإفتاء ان يستحضر تمام وظيفته ، فإنها لا تنحصر في إجابة المستفتي تحريماً او تحليلاً ، بل لا بد ان ينتصب منصب الناصح الرحيم بأمّتِه الحريص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر ، وفي ذلك يقول ابن القيم في كلمة نفيسة له : (من فقه المفتي ونُصحهِ إذا سألهُ المستفتي عن شئٍ فمَنَعَهُ منه ، وكانت حاجتُهُ تدعوه إليه : أن يدَلّه على ماهو عوض له منه ، فيسد عليه باب المحظور ويفتح له باب المباح ، وهذا لا يتَأتّى إلا من عالمٍ ناصحٍ مشفقٍ ، قد تاجَرَ اللهَ وعامله بعلمه ، فمثالُهُ في العلماء : مثالُ الطبيب العالم الناصح في الأطباء ، يحمي العليل عمّا يضرّهُ ، ويصف له ماينفعه ، فهذا شأنُ أطباء الأديان والأبدان) اهـ [اعلام الموقعين 46/6]
وهذه الصفة الهامّة في الحرص على العامّة عزّ وجودُها -للأسف- عندَ كثيرٍ من المتصدرين للإفتاء في زمانِنا هذا ، فلا يبالون بإطلاق التحريم والتضييق على الناس ، دون إرشادهم إلى ما هو بديل عما حّرموه عليهم أو منعوهم منه .

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter