المختصر اللطيف

في حكم عمل المولد الشريف

تأليف

د. بلال فيصل البحر

 

 

 

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى...وبعد:

تزدان شوارع القاهرة (اليومين دول) كما يقول إخواننا المصريون, بأبـهى حُلل الزينة, وقد تناثرتْ في أحيائها محلاتُ بيع الحلوى التي يقال لها (حلوى المولد)

إنـهم يتأهبون للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد تنازع الناس في حكمه, فمن غالٍ تعسَّفَ في منعه وشدَّدْ, ومن مُسرفٍ أطلقَ جوازه ولم يُقيّدْ, والحق الحقيق بالقبول, التوسط فيه بين خطتي الإفراط والتفريط, فإنه إن كان الاحتفال به على ما كان يصنعه الفاطميون وغلاة المتصوفة من الرقص والنوح والتواجد فهو منكر, وإن كان هو الاجتماع على العلم والذكر والنشيد فهو حسن.

وقد استخرج الحافظ ابن حجر لعمل المولد أصلاً انتزعه من خبر صوم اليهود في عاشوراء, لأنه يوم نـجّى الله فيه موسى عليه السلام, وتقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم, وقوله: (نحن أحق بهم من موسى) فدلَّ على أن الأصل في أيام الله المعظّمة, أنه يُتَقرّبُ إليه فيها بالطاعات شكراً, ولا ريب أن يوم مولده عليه السلام من أعظم أيام اللهواختار جماعة من المحققين أنه أعظمها بإطلاق كما يأتي, ومن هنا حسُن إحياؤه بالطاعة.

ويقويِّه الأصل الثاني الذي استخرجه الجلال السيوطي, وهو ما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عن صوم يوم الإثنين؟ فقال: (ذاك يومٌ ولدتُ فيه) وهذا الذي يقال له عند الأصوليين (دلالة التنبيه) فإنه عليه السلام نبَّه على إحياء اليوم الذي ولد فيه بالطاعة من صوم ونحوه, وإلا لم يكنْ قوله هذا جواباً عن سؤال السائل, كما هو ظاهر.

وهو أيضاً من أسلوب الحكيم عند البلاغيين, لأنه لم يقل صوموه, فينحصر الصوم في الإثنين دون غيره, بل أجاب السائل بما يدلُّه على هذا الأصل ويُرشدُه إليه, وهو التقرب بالطاعة في الأيام المعظّمة, كيوم مولده عليه السلام, وإن اتّفقَ كونُه في غير يوم الإثنين, فتأمله.

ومن هنا استُشكِلَ ما حُكي عن العلامة ابن عاشر المالكي رحمه الله, فإنه أنكر على ابن عبّاد حين رآه صائماً يومَ المولد, وعلَّله بأنه يومُ فرحٍ وسرورٍ، واستحسن ترك صومه الشيخ زروق وأبو عبد الله القوري وغيرهم.

ووجه الإشكال أن إنكاره هذا في مقابلة النص كما مرّ, وكونُه يومَ فرحٍ لاينافي صومَه, ولعله إنما أنكر عليه لأنه لم يصمه على جهة الشكر, بل على جهة المقابلة والمعاندة لـمَنْ يفرح ويحتفل به, كما هو مشاهد من بعض غلاة المنكرين الذين يتعمدون لجهلهم إظهارَ عدم المبالاة بـهذا اليوم العظيم.!

وهو غاية الجفاء، والمقصود إظهار الشكر لله في هذا اليوم إما بصومه وإما بالفرح، ومعلوم أن الصوم يقع شكراً لله على نعمة جلبها كما يقع على نقمة دفعها، وهذا معروف في عادات الناس فلا وجه لإنكاره.

فإن قيل: إنه لم يرد عن السلف الأول فعله.

قيل: عدم وروده عنهم لا يقتضي العدم مطلقاً, لأن عمل المولد بابُه الوسائل, وقد تقرر أن الوسائل تتبع حكم المقاصد, فإن كان المقصد حسناً كانت الوسيلة مستحسنة وإلا فلا.

فإن قيل: قد حكى أبو العباس بن تيمية أن الوسيلة إن كان المقتضي لفعلها قائماً على عهده صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعلها فلا يحسن فعلُها.

قيل: هذا أحد القولين لأهل الأصول, والقول الآخر حكاه العز والقرافي, أنـها إن اشتملت على مصلحة محققة, حسُن فعلها وإلا فلا, وهو أصح, ولا نزاع في تحقق المصلحة من اجتماع الناس والعامة على العلم والذكر, ولاسيما في هذه الأيام.

ومن احتج بعدم الورود وبنحو حديث (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) يقال له: هذا صحيح في الاجتماع الذي تحقق أن من ورائه مفسدة, لكنه لا يطّرد فيما ذكرناه, وغاية عدم الورود أن يكون كلية سالبة, لا يمتنع تخلّف بعض جزئياتـها بدليل كما تقدم ذكره, وبه يتبيّن أن عدم الورود لايستلزم العدم مطلقاً.

والحديث عام خُصَّ بالدليلين اللذين ذكرهما الحافظ والجلال, وتخصيص العموم غير مُستَنكر إذا سوّغه الدليل, بل ما من عام إلا وقد خُصَّ, ولو قُدّر عدم ورود ما مرّ من الأدلة, لكان يكون تخصيص هذا العموم بالمصلحة المتحققة الحاصلة بالاجتماع على الذكر والعلم, قويٌّ مُتَّجه, وفي تخصيص العموم بالمصلحة قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد.

ومن حُسن سياسة الأيوبيين أنـهم لم يمنعوا الناس من عمل المولد الذي كان يُقيمُه الفاطميون, بل نقلوه من مظاهره المخالفة لقانون الشرع, إلى ما استحسنه العلماء في وقتهم من قراءَة السيرة والاجتماع على الذكر والخير.  

وقد ذكروا أن الحافظ أبا الخطاب بن دحية صنَّفَ للملك المظفر صاحب إربل مولداً أسماه (السراج المنير) فأقام المظفرُ الاحتفال به, واستحسنه علماءُ المشرق, وكذا عمِلَ المولدَ بالمغرب العلامةُ أحمد العزفي السبتي كما ذكره ابنُ مرزوق, فاستحسن صنيعَه علماءُ المغرب.

وقال ابن الخديم اليعقوبي:      

وعمل المولدَ مَلْك إربلِ...تابع بعضَ الصُلحا بالموصلِ

أول من أحدثَهُ وقد قصدْ...تقرُّباً بذاكَ لله الصمدْ

وكان يُجزل العطا والنائلا...مُحتفلاً به احتفالاً هائلا

وهوَ بالعقل والبَطاله...مُتّصفٌ والعلم والعداله

والعلما والصلحا ما اعترضوا...إذ حضروا لديه بل بذا رضوا

وصنّف الشيخُ ابن دحيةَ الرضى...لهُ من أجله كتاباً مُرتضى

وقد رخص في عمل المولد والاجتماع فيه على العلم والخير والاحتفال فيه بصنع الطعام وإظهار السرور جماعة من المحققين كأبي شامة المقدسي وأبي الخطاب بن دحية والعراقي وابن حجر والسيوطي والسخاوي والقسطلاني والزرقاني وعليه أكثر المتأخرين.

وأما من روي عنه إنكار عمل المولد كشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي وابن الفاكهاني وأبي زرعة بن العراقي وغيرهم, فهم صنفان: صنف أنكره في الجملة وأنه بدعة كالفاكهاني والشاطبي, وصنف لم ينكر أصله وإنما أنكره لما يحدث الغلاةُ فيه من السماع المحرّم والرقص كابن الحاج وغيره.

وهذه بدعة دون ريب, لكنهم لا يحرّمون الاحتفال الذي هو الاجتماع على الذكر والعلم, أو إحياء المولد بالطاعة من صوم ونحوه, بدليل أن ممن روي عنه إنكار المولد الحافظ ابن حجر والسيوطي والسخاوي, وهولاء ممن ذهبوا إلى جواز الاحتفال به.!

فطريق الجمع بين ما نُقل عنهم أن يقال إنهم إنما حرّموا المولد الذي اشتمل على ما جاءت الشريعة بالنهي عنه كما مرَّ وصفه, واستحسنوا منه ما اشتمل على مصلحة مقصودة مطلوبة للشارع, وخلا من المنكرات.

ومنهم ابن تيمية فإنه قال في كتاب (الصراط المستقيم): (فتعظيمُ المولد، واتخاذُه موسماً، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لـحُسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم).

وهذا يبيّن أن كلامه في إنكار عمل المولد إنما هو لما يُعمل فيه من البدع والمنكرات, فأما الاجتماع على الخير والذكر والعلم فحسنٌ عندَه, بدليل أن كلامه متوجه إلى عمل المولد الذي فيه مظاهاة للنصارى في أعيادهم بمولد المسيح عليه السلام, ومعلوم أنه لا يكون فيه مظاهاة للنصارى إلا إن كان مشتملاً على الشرك والبدع, فإن خلا منها ولم يكن فيه إلا الذكر والعلم والنشيد فحسنٌ كما مرَّ تقريره.

ومن تمسك بنحو الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين وأنهم لم يفعلوه فهو غالط, لأن المراد حيث وجد هذا الأمر في زمانهم, ولم يُنقل عنهم فعلُه, وقد عُلم أن عمل المولد إنما حدث بعد زمانهم بدهر, ولو كان الأمر على ما فهمه لانسدَّ باب الاجتهاد, وهذا فاسد جداً, لأن النصوص والمنقولات تتناهى, والحوادث غير متناهية, ومحال أن يُقابل ما يتناهى بما لايتناهى.!

والضابط في هذا أن كل محدث لم يكن على عهد السلف الأول, فإن اندرج تحت أصل أو دليل شرعي, وخلا من مفسدة وضرر في الدين والدنيا, واشتمل على مصلحة عامة قطعية محققة, فهو حسن وإلا فلا لقوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقد نظم ذلك بعض المالكية بقوله:

حديثُ أحدَثتَ فلا ضرر لا...لقول خالق الورى ما جعلا

فما رآه المؤمنون حسنا.....فإنما الأعمال تأسيسٌ سَنَا

ومن هنا غلط الشاطبي في عدّ البدع الإضافية من البدع المذمومة مطلقاً, فقد عدّها النووي وجماعة من أهل العلم من المستحسنات الشرعية إذا اشتملتْ على ما تقدّم ذكره من الضوابط الشرعية, لحديث: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده) وقول عمر: (نعمت البدعة).

وأما التعلّق بالترك النبوي فلا يستقيم, لحديث عائشة رض الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعجبه العمل ويهم به, فيتركه خشية أن يفرض على الأمة, فيحتمل أنه تركه لهذا, ومع قيام الاحتمال لا ينهض الاستدلال، بدليل أن السلف فعلوا ما لم يكن على عهده عليه السلام إذا كان حسناً وله أصل كلي كجمع القرآن، ولذا قال عمر لأبي بكر: (كيف تصنع شيئاً لم يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ فقال: (هو والله خير) فدل بعمومه على أن ما كان خيراً محضاً وفيه مصلحة عامة محققة جاز فعله وإن لم يفعله من سلف وإلا فلا.

وكذا لايصح التعلق بعدم ورود عمل المولد عن السلف الأول, لأنه لم يكن في زمانهم أصلاً, كما هو معلوم, وإنما يحتج بهذا بتقدير حدوثه في زمانهم ولم يُنقل عنهم عملُه, فيقال عندئذ لم يرد عنهم.

وأول من علمناه صنَّف في المولد الشريف, الحافظ أبو عبد الله بن عايذ, وتلاه الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم الذي صنَّف كتابين في المولد.

وصنف الناس في عمل المولد التصانيف المتكاثرة الفائقة نظماً ونثراً, وقد اعتنى بجمعها حافظ وقته العلامة عبد الحي الكتاني في جزء لطيف أسماه (التعريف بما أفرد بالتأليف في المولد الشريف) فذكر أزيد من مائة تأليف, منها للحافظ ابن كثير, وعقبه بقوله: (وهو عجيب أن يصنّف في عمل المولد بعض أصحاب الحافظ ابن تيمية).!

وكذا صنف فيه من أصحابه ابن ناصر الدين الدمشقي في (مورد الصادي) ورجح جواز عمله، ومنه منظومة لصاعقة العلوم سليمان بن عبد القوي الطوفي البغدادي الحنبلي مطلعها:

إنْ ساعدتك سوابقُ الأفكارِ...فأنخْ مطيّكَ في حِمى المختارِ

هذا ربيع الشهر مولدُه الذي.....أضحى به زندُ النبوة واري

هو في الشهور يهشُّ في أنواره.....مثل الربيع يهشُّ يالأزهارِ

وقد ذهب أكثر العلماء المتأخرين إلى تفضيل ليلة المولد الشريف على ليلة القدر وسائر الليالي لأن الزمان إنما يشرف ويعظم قدره بشرف وقدر ما يقع فيه من الحوادث، ولا خلاف أن أعظم حدث في الدنيا هو مولده عليه الصلاة والسلام فمن هنا شرف وعظم قدر ليلة المولد وفاق فضله على سائر الليالي، كما قال ابن الخديم:

حمداً لـمُعلي ليلة الميلادِ...عن ليلة القدر لفضل الهادي

صلى وسلم عليه وعلى.....جميع آله وصحبه علا

ما دام مولد النبي عيدا.....مُعظّماً محترماً سعيدا

حديثُه أو الحديثُ عنهُ...يُطرب من يهيج شوقاً منهُ

وكيف لا والله موتي النعمةِ...أبرز في اليوم نبيَّ الرحمةِ

وتلك نعمةٌ يجلّ قدرها...فحقٌ انْ يظهر فيه شُكرها

لذاك قد عظّم شهرَ المولدِ...أهلُ محبةِ الهدى محمدِ

وقد صنف في هذا المعنى العلامة أبو عبد الله بن مرزوق التلمساني رسالة (جنى الجنتين في المفاضلة بين الليلتين) رجح فيها فضل ليلة المولد من نحو عشرين وجهاً، وهو اختيار جماعة من محققي المتأخرين كالحافظ العراقي والجلال السيوطي وذكر العلامة كنون أن هذا مما لا ينبغي أن يُختلف فيه، حتى إن بعض العلماء كابن عباد عدَّ ليلة المولد عيداً، وقد أشار إلى ذلك ابن الخديم كما تقدّم في نظمه وكما قال أيضاً:

هذا وإن ليلةَ الميلادِ....تفضيلُها من فضلِ طه بادِ

فهْيَ لذاكَ من وجوهٍ تُدرى...من ليلة القدر أجلُّ قَدْرا

بل هيَ أفضلُ لدى الحُذَّاقِ...من كلّ ليلةٍ على الإطلاقِ

وقد ذكر أهل العلم بالسير والأخبار أن أبا لهب رُئيَ في النوم بعد موته فقيل له: كيف حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يُخفف عني كل ليلة اثنين وأمصُّ من بين أصبعيَّ هاتين ماء، وذلك بإعتاقي جاريتي ثُويبة حين بشرتني بولادة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ورضاعتها له، وأشار إلى رأس أصبعه، وأصله في (الصحيح) عن عروة.

قال ابن الجزري: فإذا كان هذا الكافر الذي نزل القران بذمّه، جوزي في النار بفرحه ليلة المولد فما حال المسلم الذي يُسَرّ بمولده.؟

وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في (مولده) فقال:

إذا كان هذا كافراً جاء ذمُّهُ...وتبّت يداهُ في الجحيم مُخلّدا

أتى أنه في يوم الاثنين دائماً...يُـخَفَّفُ عنه للسرور بأحمدا

فما الظنُ بالعبد الذي كان عمره...بأحمدَ مسروراً ومات موحِّدا

                                       آخره

والحمد لله رب العالمين

اللهم صلِ على سيدنا ونبينا محمد وآله وأصحابه وسلِّم تسليماً.

كتبه

د. بلال فيصل البحر

القاهرة/1436

 

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter