نظرية الظروف الطارئة : التكييف الفقهي والقانوني / القسم الأول :
إعداد : عبدالقادر شاكر :
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهدِ اللهُ فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وبعد :
فإن للمعاملات المالية في حياة المسلم المعاصر الأهمية البالغة ، لما لها من اتصال وتعلق بشتى نواحي حياته وحاجاته اليومية ، ولما كان الإنسان وظروفه عرضة للتغير ، وخاضعاً لتقلبات الزمان والمكان ، بما تحتويه من أحداث عامة وخاصة ، تؤثر بدرجات و كيفيات مختلفة على تلك المعاملات وبالتالي على حياته ، فكان من البديهي أن تتأثر معاملاته المالية بتلك التغيرات سلباً وإيجاباً ، فتأتي الحلول الشرعية لتعالج تلك التقلبات والاضطرابات بأساليب وطرق عديدة لترفع الظلم والحيف عن المسلمين ، فكانت نظرية الظروف الطارئة وتفريعاتها أحد مظاهر تلك الحلول .
وكذا الحال بالنسبة للقوانين المدنية المعاصرة ، فقد كان لزاماً على الجهات المشرعة للقوانين الضابطة والمحددة لتلك المعاملات المالية من سن قوانين تحتوي المعالجات العادلة لتلك الاضطرابات بشتى صورها ، فكان في مقدمة تلك القوانين والمعالجات مجموعة من الاجراءات القانونية والتي تنضوي تحت مابات يُعرف عند فقهاء الشريعة وفقهاء القانون بـ (نظرية الظروف الطارئة) .
فيأتي بحثي هذا ليلقي الضوء على هذه النظرية من جانب القوانين المدنية ، مع مقارنتها بالجانب الشرعي ، تحريراً لمعناها وتكييفاً لمعالمها ، وتنزيلاً لمتعلقاتها.
سائلاً الله تعالى العون على إتمامه على أخلص وجه وأكمله و أتقنه .
إنه سميع عليم .
وقد جعلته بحسب متطلبات وتعلقات النظرية في أربعة فصول ، وكالتالي :
الفصل الأول: خصصته لتحرير معنى النظرية بصورة دقيقة ومتكاملة ، عن طريق تعريفها لغة واصطلاحاً ، ثم تمييزها عن النظريات والاصطلاحات المقاربة لها ، أو التي لها صلة بالنظرية ؛ لئلا تلتبس بغيرها ، مع بيان لماهية الظرف الطارئ ؛ ليخرج القارئ والباحث بتصور دقيق ومفصل للنظرية ؛ وليكون هذا الفصل مقدمة للولوج إلى تفاصيل النظرية وتكييفها فقهاً وقانوناً ، وفهم متعلقاتها .
أما الفصل الثاني: فقد جعلته في التكييف الفقهي والقانوني للنظرية .
أما الفصل الثالث : فقد خصصته لبيان الأدلة الشرعية والأسس القانونية التي انبنت عليها النظرية ، ومسوغات العمل بها ، وتشريع القوانين والقواعد المتفرعة عنها .
أما الفصل الرابع : ولعله الأهم من الناحية العملية لنظرية الظروف الطارئة فقد خصصته لمنظومة العمل بالنظرية ، ابتداءاً من شروط العمل بالنظرية وموانعها ، ومجالات العمل بمقتضاها وتطبيقاتها في الحقوق العامة والخاصة .
وهذا أوان الشروع في المقصود :
الفصل الاول : تحرير معنى نظرية الظروف الطارئة :
ويتضمن مبحثين :
المبحث الأول : ويتضمن ثلاثة مطالب :
المطلب الاول : تعريف مصطلح "النظرية" لغة واصطلاحاً :
فالنظرية لغةً : مشتقة من النظر ، وهو معروف يرد على معانٍ كثيرة منها : الإبصار والتأمل بالعين([1])، والمشاهدة ، و الفكر في الشئ : تُقدره وتَقيسه ، أو التفكر والتدبر كما في وقوله تعالى :(قل انظروا ماذا في السموات والأرض)[يونس الآية101] .
أما النظرية في الاصطلاح ، فعلى الرغم من انتشاره([2])في مؤلفات المتأخرين والمعاصرين ، إلا ان من المُلفت للنظر هو إغفال كثير منهم بيان معناها أو تعريفها([3])، رغم أهمية هذا الاصطلاح ، وضرورة وضع تعريف منضبط له واضح المعالم ؛ لما ينبني على ذلك من بحوث كثيرة وكبيرة تستلزم انضباط معالم هذا الاصطلاح ، تجنباً لإدخال ماهو خارج عن نطاق معناها ، أو إخراج ماهو داخل فيها .
ومع قلة من اعتنى بتعريف مصطلح "النظرية"، فإننا نجد اختلافاً بيِّناً بل وجوهرياً في تعريفها ، عند من تناول هذا الاصطلاح .
وقد ذهب كثير من الفقهاء من أهل الشريعة والقانون إلى ثلاثة اتجاهات في تعريف النظرية([4]):
الاتجاه الأول : ذهب الى أن النظرية جمع للمسائل المتشابهة ، أو التي بينها اشتراك في أي باب من أبواب الفقه ، بحيث يؤدي جمع تلك المسائل إلى الخروج بأحكام وضوابط عامة تبين معالم تلك الأبواب ، وهذا هو الغالب في اصطلاح أكثر مَن كتبَ في النظريات الفقهية .
وممن ذهب إلى هذا المعنى : العلاّمة مصطفى الزرقا ، حيث قال في تعريفه لمصطلح النظرية : (تلك الدساتير والمفاهيم الكبرى ، التي يؤلف كلٌّ منها على حِدَة نظامًا حقوقيًّا موضوعيًّا منبثًّا في الفقه الإسلامي ، كانبثاثِ الجملة العصبيَّة في نواحي الجسم الإنساني ، وتَحكُّم عناصر ذلك النظام في كل ما يتصل بموضوعه من شُعَبِ الأحكام )([5])اهـ .
وقريب من هذا التعريف : تعريف الدكتور جمال العطية إذ يقول في تعريف النظرية : (بأنها التصور المجرد ، الجامع للقواعد العامة الضابطة للأحكام الفرعية الجزئية)([6])اهـ .
وأوضح من هذا التعريف هو تعريف الدكتور فتحي الدريني حيث عرفها بقوله : (مفهوم كلي قوامه أركان وشرائط و أحكام عامة ، يتصل بموضوع عام معين ، بحيث يتكون من كل أولئك نظام تشريعي ملزم ، يشمل بأحكامه كل ما يتحقق في مناط موضوعه)([7])اهـ .
الاتجاه الثاني: وهذا الاتجاه عنى بالنظرية الأحكام الكلية التي تشمل جزئيات وفروعاً فقهية عديدة لا تنضوي تحت باب واحد .
وممن ذهب إلى هذا الاتجاه : الدكتور وهبة الزحيلي ، فقد عرف النظرية بقوله :(المفهوم العامالذي يؤلف نظاماً حقوقياً موضوعياً تنطوي تحته جزئيات موزعة في أبواب الفقه المختلفة ، كنظرية الحق ، ونظرية الملكية ونظرية العقد )([8])اهـ .
فقد ذهب الى أن مصاديق النظرية الواحدة ، أو متعلقاتها لا تنضوي تحت باب واحد ، بل تشمل أبواباً فقهية شتى ، مختلفة المواضيع ، وهي بذلك تماثل القاعدة الفقهية .
الاتجاه الثالث: إطلاق مصطلح النظرية على الدراسة الفقهية التي تتناول مواضيع قانونية([9])، وبناء على هذا الاتجاه فالنظرية هي دراسة فقهية للمواضيع القانونية ، وبالتالي فلا دخل للنظريات بمباحث العبادات على سبيل المثال ، وما هو خارج عن نطاق التخصص القانوني .
والتعريف المختار لمصطلح "النظرية"دون إضافة هو: منظومة مؤلفة من القوانين والقواعد والأحكام الكلية والجزئية ، والتي تجتمع ضمن قضية عامة متشعبة الفروع .
وما تقدم من بيان لاختلاف تعريف النظرية إنما هو في مجال الفقه الاسلامي ، أما في مجال القانون ، فالاختلاف أقل في تعريفها وحصر متعلقاتها ؛ وذلك لضيق تطبيقاتها مقارنة بالفقه الإسلامي الذي يتناول النظرية بالمفهوم العام كما مرت الإشارة .
وسيأتي عرض لبعض تعريفات القانونيين لنظرية الظروف الطارئة في محلها ، إن شاء الله تعالى .
أما الظروف فهي جمع ظرف وهو لغة : وعاء الشئ ، وظرفه ، ثم يسمون البراعة ظرفاً ، وذكاء القلب أيضاً . ومعنى ذلك أنه وعاء لذلك ، وهو ظريف وقد أظرف الرجل إذا ولد بنين ظرفاء([10]).
والمعنى الاصطلاحي هنا لا يخرج عن معناه اللغوي ، فالظرف مكانياً كان أو زمانياً هو الحيز الذي تقع فيه الحادثة ، تشبيها للوعاء الذي يحتوي ما فيه من أشياء ، وهو من باب تشبيه المعنوي بالحسي .
والطارئة صفة للظروف ، ومعناه لغة : قال الفيروزآبادي : (طرأ عليهم : كمنع ، طرْءاً وطروءاً : أتاهم من مكان ، أو خرج عليهم منه فجأة .. وأمر طُرأني : بالضم : لا يُدرى من حيث أتى .. والطارئة الداهية)([11])اهـ مختصراً .
فالمعنى أن الأمر الطارئ هو الذي يحدث فجأة دون توقع مسبق له ، سواءً كان مصدره زمانياً أو مكانياً ، والمعنى الاصطلاحي لا يخرج عن هذا المعنى أيضاً ، كما سيأتي بيانه في تعريف نظرية الظروف الطارئة في الاصطلاح إن شاء الله تعالى .
المطلب الثاني تعريف النظرية في اصطلاح الفقهاء :
لم يرد على ألسنة الفقهاء المتقدمين اصطلاح "نظرية الظروف الطارئة "، رغم إن متعلقاتها ولوازمها كانت معلومة لديهم ، ومعمولاً بها لدى جميع فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم ، وإن لم يصرحوا بها لفظاً ، لكن كانت تفاصيلها وضوابطها معمولاً بها من حيث المعنى ، لذى فسأقصر الكلام في تناول كلام المتأخرين في تعريفها في الاصطلاح الفقهي .
وقبل الشروع في تعريف نظرية الظروف الطارئة : من المهم التنبيه إلى إن مفهوم النظرية ومصادقيها في الفقه الاسلامي يرد على قسمين :
الأول : المفهوم العام أو الشامل : وتدخل النظرية بهذا الاعتبار في شتى أبواب الفقه ، بِدءاً من العبادات كالإحصار في الحج والعمرة ، والأحوال الشخصية كالإرضاع الحادث بعد عقد الزواج ، وانتهاءً بالمعاملات المالية من بيوع وإجارات ، وما يتعلق بها من ديون .
والثاني : المفهوم الخاص أو المقيد : وهو المراد عند الإطلاق : فتتقيد بأبواب البيوع والعقود المالية حصراً .
ومن هنا جاءت تعريفات الفقهاء المعاصرين للنظرية ، مقيدين معناها وفقاً للمفهوم الثاني للنظرية .
فقد عرفها بعض المعاصرين بقوله : (مجموعة القواعد والاحكام التي تعالج الآثار الضارة اللاحقة بأحد المتعاقدين ، الناتجة عن تغير الظروف التي تم بناء العقد في ظلها)([12])اهـ .
وبالنظر لكون معنى النظرية عند الفقهاء -بالمفهوم الخاص- لا يخرج عن معناها عند القانونيين ، لذا فسأفصّل القولَ أكثر عند تناول تعريفها عند القانونيين في المطلب التالي :
المطلب الثالث : تعريف النظرية في اصطلاح القانون المدني :
من المهم التنبيه هنا إلى أن مفهوم النظرية عند فقهاء القانون لا يخرج بالجملة عن مفهوم الفقهاء للنظرية بالمعنى الخاص وكما تقدم ذكره آنفاً ، فإنهم وإن اختلفت ألفاظهم في تعريفها إلا إنها تنساق ضمن مفهوم وآثار النظرية عند الفقهاء ، مع اختلافات لا تؤثر على جوهر معناها كما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى .
ثم إن الخلاف في تعريف النظرية عند فقهاء القانون أقل منه عند فقهاء الشريعة ، بل تكاد تتفق أقوالهم من حيث المعنى على مفهوم واحد للنظرية وإن اختلفت الألفاظ ، فقد عرفها ياسر ذنون بقوله : (الحالة الاستئنائية التي يطرأ فيها – بعد إبرام العقد وقبل تنفيذه – حادثٌ لم يكن متوقعاً ، من شأنه أن يؤدي الى اختلال التوازن بين التزامات الطرفين اختلالاً فادحاً ؛ إذ يصبح الالتزام الملقى على عاتق المدين مرهقاً له إرهاقاً شديداً ويترتب على تنفيذه له خسارة فادحة )([13]).
وعرفها الاستاذ إسماعيل عمر المحامي بقوله : (حالة عامة غير مألوفة أو غير طبيعية ، أو واقعة مادية عامة لم تكن في حسبان المتعاقدَين وقت التعاقد ، ولم يكن في وسعهما ترتيب حدوثها بعد التعاقد ، ويترتب عليها أن يكون تنفيذ الالتزام التعاقدي مرهقاً للمدين ، بحيث يهدده بخسارة فادحة ، وإن لم يصبح مستحيلاً)([14]).
وعرفها الاستاذ حشمت أبو ستيت بقوله : (هي كل حادث لاحق على تكوين العقد وغير متوقع الحصول عند التعاقد ، ينجم عنه اختلال بين المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه إلى أجل أو آجال ، ويصبح تنفيذ المدين لالتزامه كما أوجبه العقد يرهقه إرهاقاً شديداً ، ويتهدده بخسارة فادحة ، تخرج عن الحد المألوف)([15]).
والملاحظ على هذه التعاريف اتفاقها على عدة مضامين جوهرية لمكونات النظرية ، وهي : 1- حصول ضرر لاحق ، بعد إبرام العقد ، مؤثر على انسيابيته ، ومعارض لما اتفق عليه الطرفان ابتداءً .
2- كون الضرر موصوفاً بالإرهاق ، إرهاقاً لا يطيقه أحد الطرفين ، بحيث يؤدي الامضاء في مقتضى العقد إلى إحداث الأذى الكبير على أحدهما أو كليهما .
3- عدم توقع حصول هذا الظرف عند إبرام العقد .
وأذكِّر مرة أخرى هنا إلى أن القانونيين تناولوا النظرية بأسماء أخرى مقاربة هي : الظروف الاستثنائية ، والظروف المفاجئة ، وبالتالي فقد يجد الباحث هذا الاصطلاح أو ذاك معبراً عنه بلفظ آخر مرادف له ، فاقتضى التنبيه .
المبحث الثاني : تحرير نظرية الظروف الطارئة وتمييزها عن النظريات المشابهة :
بالنظر لكثرة متعلقات النظرية بنظريات واصطلاحات أخرى مشابهة أو مقاربة لها ، فمن المهم فصل معنى النظرية الدقيق عن غيرها ، وتحرير معناها المنضبط ؛ لئلا تلتبس بنظريات أو اصطلاحات أخرى .
وقد جمعت هنا ما له صلة بالنظرية ، ثم قمت ببيان الفروق المعتبرة بينها وكما يلي :
-
نظرية القوة القاهرة : وهي : كل فعل لا شأن لإرادة المدين فيه ، ولا يمكنه توقعه ، ولا منعه ، ويصبح به تنفيذ الالتزام مستحيلاً([16]).
فالنظرية من حيث الشكل مشابهة لنظرية الظروف الطارئة ، حيث تلتقي النظريتان في ظرف يقع بعد إبرام العقد المتراخي، لا يمكن توقعه ، يؤدي إلى احداث ضرر بأحد المتعاقدين ، ويفترقان من الوجوه التالية :
أ- إن الظرف الطارئ لا يمنع من إمضاء العقد لكن يجعله عسراً مرهقاً ، بخلاف القوة القاهرة فإنها تجعل إمضاء العقد واستيفاء متعلقاته مستحيلاً([17]) .
ب - ذهب الجمهور من مشرعي القوانين إلى اشتراط العموم في اعتبار الظرف الطارئ ، بخلاف القوة القاهرة فإنها لا يشترط لتطبيقها صفة العموم .
ج - في نظرية الظروف الطارئة لا يجوز للطرفين المتعاقدين الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الظروف الطارئة ، أما في نظرية القوة القاهرة فيجوز الاتفاق على ذلك([18]).
د- القوة القاهرة تستلزم انتهاء الالتزام الذي ترتب على العقد ، فلا يتحمل المدين تبعة عدم التنفيذ ، أما الظرف الطارئ فلا ينقضي معه الالتزام ، بل يرده إلى الحد المعقول برفع الأثر المرهق الذي سببه الظرف الطارئ([19]).
2- نظرية الظروف الاستثنائية ، وهي عند القانونيين مرادفة من حيث المعنى لنظرية الظروف الطارئة كما يعرف ذلك من صنيعهم عند تناولها([20])، وتسمى أحياناً : نظرية الظروف المفاجئة ، كما في القضاء الامريكي([21])، ومن الجدير بالذكر أن العلامة السنهوري قد سماها باسم نظرية الحوادث الطارئة([22])أيضاً في كتابه الوسيط .
3- نظرية عمل الامير : وهو عمل يصدر من سلطة عامة دون خطأ من جانبها - حيث تكون طرفاً في عقد- يؤدي - ذلك العمل- إلى إحداث ضرر على الطرف الآخر يؤدي الى التزام تلك الجهة بتعويضه عن تلك الاضرار لتعيد له التوازن([23]).
وهي من النظريات المتعلقة بالتصرفات الإدارية ، و التي أنشأها مجلس الدولة الفرنسي([24]).
ويتضح الفرق بينها وبين نظرية الظروف الطارئة من خلال الفرضية التي تقوم عليها ، وهي وجود سلطة ذات إدارة عامة يصدر عنها خطأ يترتب عليه أذى يقع على الطرف الآخر المتعاقد مع تلك السلطة ، في حين لا وجود لهذه الفرضية في الظروف الطارئة .
لكنهما يشتركان في صفة الظرف اللاحق لأبرام العقد والذي يؤدي الى إحداث ضرر معين متعلق بالطرف الاخر من العقد .
4- نظرية العذر الطارئ : وهي تتماشى مع معالم نظرية الظروف الطارئة ونظرية القوة القاهرة ، إجمالاً ، يكن يمكن تمييزها عن نظرية الظروف الطارئة من أربعة أوجه وهي :
ا- الاختلاف في المحل الذي يحدث فيه السبب الطارئ ، ففي نظرية الظروف الطارئة يكون الظرف الطارئ في محل الالتزام ذاته ، بخلاف العذر الطارئ فإنه يتعلق بأحد المتعاقدين.
ب – العذر الطارئ يمكن دفعه بخلاف الظرف الطارئ فإنه يتعذر دفعه غالباً.
جـ- الظرف الطارئ يستلزم إعادة التوازن بإزالة الالتزام المرهق ، بخلاف العذر الطارئ فإنه يفسخ العقد ، وهو بذلك يشابه القوة القاهرة .
د- العذر الطارئ يكون خاصاً ، بخلاف الظرف الطارئ فإنه يكون عاماً([25]).
5- نظرية الغبن اللاحق : وهي عدم التعادل بين التزامات المتعاقدين المتبادلة ، والذي يحدث في الفترة بين الاتفاق على جميع شروط العقد وحصول الأمر الذي يتوقف عليه الانعقاد النهائي للعقد بسبب حدوث ظرف طارئ([26]).
فوجه الاتفاق بين النظرية والغبن اللاحق هو اشتراكهما في طروء حَدَث متراخٍ على العقد يؤدي الى الإرهاق وإخلال التوازن المالي للعقد ، أما وجه الاختلاف فهو ان مجال تطبيق النظرية أوسع بكثير من نظرية الغبن اللاحق ، إذ ان الاخيرة محصورة في بيع العقارات دون المنقولات ، بخلاف الظروف الطارئة فإنها تشمل جميع العقود المالية المعروفة تقريباً([27])، كما يفترقان من وجه آخر وهو : ان حق أبطال العقد في نظرية الغبن اللاحق مقصور على البائع دون المشتري ، بخلاف نظرية الظروف الطارئة فإن حق الإبطال لكلا الطرفين ، بالإضافة الى أن الجزاء في الغبن اللاحق يقتصر على تكملة الثمن إلى ثمن المثل ، وإذا لم يذعن المشتري لذلك فللبائع حق طلب الفسخ ، بخلاف الجزاء في الظروف الطارئة فإنه في الغالب يكون على هيئة إجراء تعديل في شروط العقد بصورة تمكن من إعادة التوازن الاقتصادي الى العقد المختل([28]).
المبحث الثالث : في طبيعة الظرف الطارئة الذي يستلزم إعمال النظرية :
رغم كون النظرية تدور حول الظرف الطارئ وآثاره ، إلا إن كثيراً من القوانين المدنية لم تعتنِ ببيان وصف محدد منضبط لماهية الظرف الطارئ الذي يؤثر على العقود ، ويستلزم التدخل في محتوياتها([29])، في حين قد اعتنت بعض الانظمة القانونية بتناول معالم تلك الظروف بما يجلي خصائصها ، ويمكن حصر هذه المعالم بما يأتي :
اولاً : من حيث مصدر الظروف الطارئة : حيث تنقسم بهذا الاعتبار الى ثلاثة أقسام([30]):
-
ظروف طبيعية : وهي الحوادث التي تطرأ دون تدخل من الانسان ، ويكون مصدرها أمور طبيعية لا بشرية كالزلازل والفيضانات ، ونحوها .
-
ظروف بشرية : وهي التي يكون مصدرها البشر أنفسهم ، كالحروب والثورات والإضرابات ونحوها .
-
ظروف تشريعية : كالقوانين التي تشرعها الدول وتتناول الأسعار ، أو تتدخل في طبيعة العقود المالية ، مايؤدي إلى إحداث خلل في طبيعة العقد .
ثانياً : ينقسم الظرف الطارئ من حيث مدى تأثيره إلى قسمين :
-
ظرف دائم : ولا يقصد به أنه لا ينقضي إلى الأبد ، لكن متى ما امتد أثره لفترة زمنية طويلة في عرف القانون ، فهو يصنف ضمن الظروف الدائمة ، كسَنِّ القوانين التي يراد لها الاستمرار ابتداءً ، وإن طرأ عليها في المستقبل ما يغيّرها أو يزيلها من الأصل .
-
ظرف مؤقت : ويتمثل في الواقعة التي لها تأثير مؤقت غير مستمر ، كإضراب عمال مصنع ، أو إصدار قانون مؤقت ، ويتضح الفرق بين أثر الظرف الدائم والظرف المؤقت من ناحية عمل القاضي ، فقد يلجأ إلى تأجيل العمل بالعقد لحين زوال الظرف المؤقت ، ولا يمكن للقاضي اللجوء لمثل هذا الخيار في حالة الظرف الدائم ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
ثالثاً : ينقسم الظرف الطارئ من حيث طبيعة منشأه الى قسمين أيضاً :
-
ظروف مفاجئة : وهي الظروف التي تنشأ فجأة دون توقع من العاقدين ، بحيث يبدأ الظرف ويكتمل في وقت قصير([31])، كنشوب الحرب أو حدوث الأعاصير .
-
ظروف تدريجية : وهي التي تتكون تدريجياً ، وتكتمل تدريجياً كارتفاع الأسعار .
رابعاً : ينقسم الظرف الطارئ من حيث تركيبه إلى قسمين أيضاً وهما :
-
ظرف مفرد : وهو الظرف الذي يتمثل في حادثة مفردة بذاتها يتوافر لها ضوابط الظرف الطارئ ، دون أوصاف أخرى خارجة عن ذلك الظرف .
-
ظرف مركب : وهو عادة ما يكون غير مؤثر ، ولا ظرفاً طارئاً في ذاته ، وأنما تسبقه حادثة أو واقعة تجعله كذلك ، كصدور قانون معين لا يُعد في حد ذاته ظرفاً طارئاً ، ولكن تلحقه ، أو تصاحبه أحداث ، تجعله بمثابة الظرف الطارئ من حيث الآثار المترتبة عليه .
[1]))ينظر القاموس المحيط للفيروزآبادي / مؤسسة الرسالة / الطبعة الثالثة 1433 هـ-2012 م : ص 484 .
[2]))أي اصطلاح النظرية .
[3]))أي اصطلاح النظرية , ومن الكتب التي تناولت مصطلح النظرية ولم يعتنِ مؤلفوها بتعريفها : النظريات الفقهية لمحمد الزحيلي , وغيره كثير .
[4]))ينظر شرح النظريات الفقهية / للدكتور سعد الشثري ص 4 ومابعدها .
[5]))ينظر : المدخل الفقهي العام : لمصطفى الزرقا / دار القلم – دمشق / الطبعة الثالثة 1433 هـ - 2012 م ج1/ ص 329 .
[6]))ينظر : التنظير الفقهي : جمال العطية ص 9 .
[7]))ينظر : النظريات الفقهية : فتحي الدريني ص 140 .
[8]))ينظر : موسوعة الفقه الاسلامي والقضايا المعاصرة : تاليف الدكتور وهبة الزحيلي / دار الفكر –دمشق / الطبعة الثالثة 1433 هـ-2012 م : ج 10 / ص 17 .
[9]))ينظر : شرح النظريات الفقهية ص 5 .
[10]))ينظر : معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين بن فارس : دار إحياء التراث العربي , الطبعة الاولى 1422هـ- 2001 م / ص 620 , والقاموس المحيط : للفيروزآبادي : مؤسسة الرسالة / ص 834 .
[11]))ينظر : القاموس المحيط : للفيروزآبادي : مؤسسة الرسالة / ص 46 .
[12]))ينظر : نظرية الظروف الطارئة : أركانها وشروطها : د. أحمد شليبك / المجلة الاردنية في الدراسات الاسلامية / العدد2 المجلد الثالث ص 171 نقلاً عن بحث بعنوان (تغير قيمة النقود وتأثر ذلك بنظرية الظروف الطارئة في الفقه الاسلامي المقارن) لمحمد خالد منصور , منشور في مجلة دراسات علوم الشريعة والقانون , الجامعة الاردنية المجلد (1) العدد 1 , 1998 ص 153.
[13]))ينظر : نظرية الظروف الطارئة : وأثرها على الاحكام القضائية ص 188 .
[14]))ينظر : أثر نظرية الظروف الطارئة على العقود : مذكرة تخرج لنيل الماجستير في القانون : إعداد زهرة بلقاسم ص25.
[15]))ينظر : نظرية الالتزام في القانون المدني الجديد 1954 م , نقلاً عن: أثر نظرية الظروف الطارئة على العقود : مذكرة تخرج لنيل الماجستير في القانون : إعداد زهرة بلقاسم ص25.
[16]))ينظر : أثر الظروف الطارئة على العقود المدنية , دراسة تحليلية في قانون المشروع المدني الفلسطيني / إعداد الطالبة هبة محمد الديب / رسالة ماجستير , جامعة الأزهر - غزة 1433 هـ - 2012 م/ ص 50
[17]))من الجدير بالذكر إن بعض القوانين المدنية لم تميز بين النظريتين في نصوصها المعمول بها , بل اعتبرتها أحيانا أمراً واحداً , ينظر المصدر السابق ص 50 .
[18]))ينظر : أثر الظروف الطارئة على العقود المدنية , دراسة تحليلية في قانون المشروع المدني الفلسطيني / إعداد الطالبة هبة محمد الديب / رسالة ماجستير , جامعة الأزهر - غزة 1433 هـ - 2012 م/ ص 52
[19]))ينظر : العذر وأثره في عقود المعاوضات المالية في الفقه الإسلامي / تاليف الدكتور قذافي عزات الغنانيم / دار النفائس / الطبعة الأولى 1428 هـ - 2008 م/ ص 304
[20]))ينظر : نظرية الظروف الاستثنائية وبعض تطبيقاتها المعاصرة , إعداد : أمير حسن جاسم , مدرس القانون الإداري المساعد / جامعة تكريت / كلية القانون , بحث منشور على موقع : منتديات القانون العماني.
[21]))ينظر : نظرية الظروف الطارئة : أركانها وشروطها , مصدر سابق : ص 170 .
[22]))ينظر : الوسيط في شرح القانون المدني الجديد ج1 / ص 642 .
[23]))ينظر : نظرية الظروف الطارئة : بين القانون المدني والفقه الاسلامي / تاليف دكتور محمد محيي الدين ابراهيم / ص 545 .
[24]))ينظر : نظرية الظروف الطارئة : بين القانون المدني والفقه الاسلامي / تاليف دكتور محمد محيي الدين ابراهيم / ص 545 .
[25]))ينظر للتفصيل : سلطة القاضي في تطبيق نظرية الظروف الطارئة في القانون المدني الأردني : دراسة مقارنة / إعداد خالد رضوان أحمد سمامعة , إشراف غازي أبو عرابي ص 99 .
[26]))ينظر : أثر الظروف الطارئة على العقود المدنية , دراسة تحليلية في قانون المشروع المدني الفلسطيني ص 52 .
[27]))ينظر : أثر الظروف الطارئة على العقود المدنية , دراسة تحليلية في قانون المشروع المدني الفلسطيني / إعداد الطالبة هبة محمد الديب / ص 53
[28]))ينظر : أثر الظروف الطارئة على العقود المدنية , دراسة تحليلية في قانون المشروع المدني الفلسطيني / إعداد الطالبة هبة محمد الديب / ص 53 ..
[29]))ينظر: نظرية الظروف الطارئة بين القانون المدني والفقه الاسلامي دراسة مقارنة ص 233 .
[30]))ينظر: نظرية الظروف الطارئة بين القانون المدني والفقه الاسلامي دراسة مقارنة ص 233 .
[31]))ينظر: نظرية الظروف الطارئة بين القانون المدني والفقه الاسلامي دراسة مقارنة ص 241 .
...