شذرات

في اختصار مباحث

علم الدلالات

 

تاليف

ابي عبدالرحمن بن ابي محمد آل حمد

 

 

 

المقدمة

      إن الحمدلله . نحمده ونستعينه ونستغفره . ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا . من يهد اللهُ فهو المهتدِ ومن يضلل فلاهادي له .

وأشهد ان لااله الا الله وحده لاشريك له . واشهد ان محمداً عبده ورسوله .

وبعد :

 فان الاشتغال بطلب العلم الشرعي من اعظم القربات . ومما يزيد من عظم اجره في هذا الزمان كثرة المنصرفين عنه[1]مع شدة حاجة المسلمين الى علماء ربانيين يهدون الناس الى الصراط المستقيم باذن الله , هذا مع ما يلحق طالب العلم من مشاق في طريق الطلب تزيد من اجره وترفع من منزلته .

ولما كان بلوغ درجة الاجتهاد من اعظم الغايات التي يسعى طالب العلم للوصول اليها لما تستلزمه هذه المنزلة من اتقان جملة من العلوم الشرعية واستكمال الاهلية للنظر في النصوص الشرعية بغية استنباط الاحكام لما يستجد من حوادث اونوازل عامة كانت اوخاصة . فقد استدعى ذلك مزيد اهتمام بالعلوم الموصلة لهذه المنزلة الشريفة وفي مقدمتها علم اصول الفقه .

 وقدر الله تعالى أن تكون مادة الدلالات من ضمن المنهج المقررفي مرحلة الدراسات العليا وقد كُلفتُ ضمن هذه المادة بكتابة بحث مختصر يتناول جملة من مسائله مع مراعاة امرين مهمين يخص الدارسين الاول : تسهيل عباراته والثاني : اختصار مسائله . على وجه يستوعبه الطلاب من جهة . ويناسب حصيلتهم العلمية ومقاصدهم الدراسية من جهة اخرى فتوكلت على الله تعالى واستعنت به على اتمام هذا المختصر :

وقد حرصت فيه على ترك التطويل. واختصار الامثلة وتقليل التفريع وجعلت ماله نفع قد يخرج عن مقاصد الدرس ضمن الحاشية لتتسع معارف الدارسين ويستكملوا تصوراتهم عنها . ومن المهم التنبيه قبل الشروع في بيان فصول هذا المختصر اني التزمت خطة المادة المقررة من قبل الجامعة . لذا فان علم الدلالات يتضمن كثيراً من الفصول والتفاصيل التي لم اذكرها التزاما بالخطة المقررة[2].

والله تعالى اسأل العون على التمام على اكمل وجه وايسره واتقنه انه سميع عليم وهذا اوان الشروع في المقصود :

 

 

 

٭٭٭

 

 

الفصل الاول

مدخل الى علم الدلالات

 

الدلالة لغةً : مصدر ماخوذ من الفعل : دلّ وهو فعل له معانٍ كثيرة يقال مثلاً : دله على الطريق يدله دلالة بفتح الدال وكسرها ودلولة بضم الدال[3]. والمراد بالدلالة اصطلاحاً : كون اللفظ بحيث اذا اطلق فهم منه المعنى من كان عارفاً بوضعه له[4].

 اي عارفاً بكون ذلك اللفظ موضوع لذلك المعنى .

اما علم الدلالة : فهوببساطة : العلم الذي يدرس المعنى[5]. ولذلك يسمى احياناً : علم المعنى[6].

اهميته وثمرته: تتضح اهمية هذا العلم من ارتباطه الوثيق بعلم التفسير لكلا الوحيين من الكتاب والسنة والاستنباط من النصوص الشرعية لمعرفة الاحكام الشرعية فهو من مؤهلات الاجتهاد[7]. وهو كذلك وسيلة مهمة جدا لتفسير النصوص التشريعية . فلايستغني عنه الباحثون والمختصون بالدراسات القانونية .

مصادره واستمداده: تعتمد مصادرعلم الدلالة على اربعة علوم وهي :

      اولا : متن اللغة: اومعاجم اللغة العربية ومن اهمها معجم مقاييس اللغة لابن فارس والمخصص والمحكم كلاهما لابن سيده ولسان العرب لابن منظور[8].

ووجه استمداد علم الدلالات من متن اللغة كونه المعول عليه في تأصيل معاني المفردات التي يتكون منها الكلام سواء القران الحكيم اوالسنة النبوية اوالنصوص القانونية .

     ثانيا : فقه اللغة[9]: ومن اهم كتبه الخصائص لابن جني والمزهر في علوم اللغة للسيوطي وفقه اللغة للثعالبي .

ووجه استمداد علم الدلالات من فقه اللغة كونه مرجعاً اساسياً في معرفة القوانين التي تخضع لها اللغة التي منها تتكون المفردات ثم الجمل . وهي[10]المرجع في تفسير ماغمض من اساليب العربية في فنون التخاطب . وتاريخ نشوء اللغة ومارافقه من تطور اوتغير في كل ذلك . اضافة لمعرفة اللهجات وتباين دلالات الالفاظ بحسب السياق اوالاشتقاق وماشابه.

     ثالثاً : اصول الفقه : ومن اهم كتبه : كشف الاسرار شرح اصول البزدوي لعلاء الدين البخاري الحنفي . ونفائس الاصول في شرح المحصول لشهاب الدين القرافي المالكي . والبحر المحيط لبدر الدين الزركشي الشافعي . والتحبير في شرح التحرير لعلاء الدين المرداوي الحنبلي . ونهاية الوصول في دراية الاصول لصفي الدين الهندي الشافعي . وهذه الكتب الخمسة جمعت جل مادة علم الاصول .

ووجه استمداد علم الدلالات من اصول الفقه كونه فرعاً من مباحثه ويكفي ذلك في بيان الصلة الوثيقة بين العلمين .

    رابعاً علم المنطق: ومن كتبه شرح السلم لحسن القويسني وشرح السلم لاحمد الدمنهوري .

وحاجة الدارس لعلم الدلالات للمنطق لاتتعدى التعرف على بعض الاصطلاحات فلايقتضي الاحاطة الواسعة بهذا العلم ولابكتبه لذا فقد اقتصرت على ذكر اثنين منها وان لم تكن مشهورة ويكفي الدارس ان يطلع على واحد منها اومن غيرها من كتب المنطق .

ولايعني استمداد علم الدلالات من هذه العلوم الاربعة استغناؤه عن سائر العلوم بل العلوم الشرعية كلها مترابطة لايستغني بعضها عن بعض . فلابد من الاحاطة بعلم التفسير وفقه الحديث فضلاً عن النحو والصرف والبلاغة . وسيرى الدارس امثلة لترابط هذه العلوم فيما سيرد من امثلة متفرقة . خلال فصول الكتاب .

واعلم ان الدلالات اقسام كثيرة[11]بحسب اختلاف النظر اليها ومن اهم اقسامها التي لها صلة بالدراسات الشرعية والقانونية هي الدلالة اللفظية والدلالة غير اللفظية[12]. والمقصود بالدلالة اللفظية ماكان ادراك المراد منها عن طريق الالفاظ[13]. بخلاف غير اللفظية فان ادراك المراد منها يكون بغير الفاظ وكما سيأتي قريباً باذن الله .

هذا وإن كلاً منهما ينقسم الى دلالة وضعية وعقلية وطبيعية فيكون المجموع ستة اقسام واليك بيانها مع التمثيل :

1 الدلالة الوضعية اللفظية : اي انها يدرك معناها بوضع اللغة مثل دلالة كلمة رجل على الانسان الذكر البالغ .

2 الدلالة العقلية اللفظية : اي انها يدرك معناها بمحض العقل مثل دلالة صدور الكلام من الجسد على حياة صاحبه .

3 الدلالة الطبيعية اللفظية : اي انها تُدرك بواسطة الطباع كدلالة اللفظ الخارج عند السعال على وجود علة في الصدر. ودلالة التأوه على الوجع .

4 الدلالة العقلية غير اللفظية : وهي ان يدرك العقل المراد منها بغير لفظ كدلالة الدخان على وجود النار .

5 الدلالة الوضعية غير اللفظية : اي انها تدل على المراد بشئ وُضِع او اصطلح عليه ليدل على المعنى المطلوب كدلالة المتر على المسافة المعروفة وغروب الشمس على دخول صلاة المغرب .

6 الدلالة الطبيعية غير اللفظية : اي انها تدرك من قبل الطبائع المعتادة عند البشر كدلالة حمرة الخد على الخجل وصفرة الوجه على المرض او الخوف[14].

 وبالنظر لاهمية مباحث الدلالة اللفظية في الدراسات الشرعية والقانونية فسنفردها بالتفصيل فيما يلي :

 

٭٭٭

الفصل الثاني

في انواع الدلالة اللفظية عند الجمهور

   المبحث الاول : في المنطوق ومايلحق به :

ويشتمل على مطالب :

   المطلب الاول : في معنى المنطوق واقسامه :

 

من المهم التنبيه هنا الى أن ماسيأتي من اصطلاحات وتقاسيم يستلزم امرين مهمين لتحقيق المقصود من عرض مسائل هذا البحث والوصول الى الفهم المطلوب لها . فاما الاول فمتعلق بالمتكلم وهو تحري الدقة البالغة في اختيار الالفاظ والتعابير المتعلقة بهذه الاصطلاحات لتكوين التصور الصحيح لها عند السامع . والامر الثاني وهو متعلق بالسامع اوالمتلقي فانه يلزمه التأمل الدقيق والتدبر الملائم لهذه الاصطلاحات الدقيقة والمتقاربة في معانيها ليصل الى فقه[15]دلالاتها . وبدون ذلك فسيقع حتماً في خلط واضطراب في التمييز بينها ومن ثَم تضييع الثمرة المرجوة من دراسة هذه الاصطلاحات وهي الاستعانة بها في تفسير النصوص .

فأقول :

   ان مما لاشك فيه ان السامع تتوارد اليه المعاني او المفاهيم المتعددة من اكثر من وجه وذلك عند سماعه لكلام المتكلم فيفهم من ذات الالفاظ معنى ومن نبرة الصوت[16]اونغمته : معنى ومن متعلقات الالفاظ : معنى اخر وكل ذلك بعد التأمل في تلك الالفاظ التي يسمعها . ومن هنا فقد قسم الاصوليون مايتوارد لذهن السامع من فهم للكلام قسمين :

الاول : المنطوق: وهو مايدركه السامع من معنى . من ذات اللفظ . وهوالمقصود الاصلي للمتكلم باللفظ . وعرفوه بانه مادل عليه اللفظ في محل النطق . بمعنى ان ادراك المراد من ذلك اللفظ انما يكون بمجرد سماعه . فان الانسان حينما يسمع كلمة جبل مثلا يتوارد لذهنه معنى الجبل مباشرة ويدرك معنى الكلمة دون الحاجة الى مزيد توضيح اوقرائن تبين المراد . فانطباع معنى الجبل في الذهن عند اول سماع تلك الكلمة هو دلالة المنطوق[17].

ويسمى " نصاً " ان لم يحتمل غير معنى واحد . ويسمى " ظاهراً " ان احتمل كما سيأتي بيانه باذن الله تعالى .

والثاني : المفهوم[18]: وهومايدركه السامع من معنى بواسطة ذلك اللفظ وليس من ذات اللفظ . وعرفوه بانه : " مادل عليه اللفظ لافي محل النطق[19]" وسيأتي زيادة بيان وتوضيح في محله ان شاء الله وذلك عند الكلام على اقسام المفهوم .

وقد قسم الاصوليون دلالة المنطوق بحسب تعلقها بما تدل عليه أومن حيث شمولها و استيعابها لما تدل عليه الى ثلاثة اقسام وهي[20]:

1 دلالة المطابقة : اي دلالة[21]اللفظ على تمام معناه كدلالة لفظ الصلاة على سائر افعالها واقوالها من قيام وركوع وسجود وقراءة . وكذا دلالة لفظ الصوم فان تصور معناه او ادراكه يشمل جميع اجزائه من امتناع عن الاكل والشرب وسائر المفطرات.

2 دلالة التضمن : اي دلالة اللفظ على جزء معناه . كدلالة الصلاة على الركوع مثلاً ودلالة الصوم على الامتناع عن الاكل .

3 دلالة الالتزام : اي دلالة اللفظ على لازم معناه . خارج عنه . كدلالة الصلاة على الطهارة ودلالة الصوم على النهار .

والفرق بين التضمن والالتزام ان دلالة التضمن داخلة في المسمى ودلالة الالتزام خارجة عنه .

وسبب هذا الحصر بثلاثة انواع فقط[22]هو ان دلالة اللفظ على معناه اما ان تشمل المعنى كاملاً وهي دلالة المطابقة واما ان لاتشمل تمام المعنى وهذا القسم[23]اما ان يدل على جزء من المعنى وهو دلالة التضمن اويدل على معنى ملازم له خارج عنه لايمكن تصور تمام المعنى الابه وهودلالة الالتزام[24].

 

المطلب الثاني في اقسام دلالة الالتزام :

 

قسم الاصوليون دلالة الالتزام الى ثلاثة اقسام :

     أ - دلالة الاقتضاء : وهي توقف صحة اوصدق معنى اللفظ من ناحية العقل اوالشرع على تقدير لفظ مضمر[25]. اي ان المعنى المستفاد من المنطوق لايصح – اماعقلاً اوشرعاً - الابتقديرلفظ يستقيم به الكلام ومن امثلة دلالة الاقتضاء عقلاً : طرتُ الى مكة لاداء العمرة . فالعقل لايصحح هذا الكلام الا بتقدير كلمة: (بالطائرة) فيكون المراد طرتُ بالطائرة الى مكة . ومثال الاقتضاء شرعاً قوله r: " لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ[26]" فان الصلاة من حيث الواقع يمكن ان تؤدى بغير سورة الفاتحة . فحتى يصح الكلام شرعاً يقدر محذوف نحو : لاتصح صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب .

   ب - دلالة الاشارة : هي دلالة اللفظ على معنى غير مقصود- قصدا اصلياً - من سياق الكلام. وانما يفهمه السامع من الكلام عرضاً . مثل ان يسأل رجل صاحبه فيقول : اين كنت فجر هذا اليوم ؟ فيقول : كنت في المسجد . فالجواب سيق اصالة لبيان اين كان في وقت الفجر . وبدلالة الاشارة يفهم السائل ان صاحبه ممن يصلي الفجر في المسجد . ومثاله ايضاً قوله تعالى :{ احلّ لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم} فالاية سيقت اصالةً لبيان اباحة الجماع في ليلة الصيام . ولكن يفهم من الاية بدلالة الاشارة : جواز ان يبقى المسلم اوالمسلمة - اللذان يريدان الصيام - على جنابة حتى طلوع الفجر .

    ج - دلالة الايماء والتنيه : الايماء لغةً : بمعنى الاشارة مأخوذة من وَمَأ يَمِأ وَمْئاً : اي اشارَ[27]. واما التنبيه فهو القيام من النوم . ونبهه من الغفلة فانتبه[28].

    واصطلاحاً : هي دلالة النص على معنى يدرك من وجود وصف[29]لولم يكن للتعليل لكان ذكر ذلك الوصف عبثاً بغير فائدة . وهذه الدلالة من مسالك العلة في القياس[30]. ومن امثلة ذلك قوله r" ليس لقاتلٍ ميراث "[31]فالحديث تضمن حكماً وهو منع القاتل من أن ياخذ شيئاً من ميراث مَن قتله . وذكر وصف " القاتل " هوالذي يدل دلالة ايماء اوتنبيه على أن سبب اوعلة حرمانه من الميراث هو : لانه قتل مورثه .

المبحث الثاني في المفهوم واقسامه :

 

تقدم آنفاً بيان المراد بمصطلح " المفهوم " وانه مايدركه السامع من معانٍ متصلة بدلالة المنطوق . وبتعبير اخر : ان مايدركه السامع من معانٍ عند سماعه لكلام ما إما أن يدل عليه ذلك اللفظ المسموع دلالة اصلية كدلالة عبارة ( دخلتُ المسجدَ ) على المكان المعروف المتخذ للصلاة . فهو دلالة منطوق . وإما ان يدرك معانٍ اخرى تتصل بسياق الكلام كادراك كون الداخل من المصلين ونحو ذلك وهي دلالة المفهوم .

وحتى لايقع الدارس في لبس اوخلط بين اصطلاح المفهوم واصطلاحات دلالة الاقتضاء والاشارة والتنبيه اقول : ان الفرق بين المفهوم وبين دلالة الاقتضاء هو : توقف الصدق اوالصحة على اضمار لفظ في دلالة الاقتضاء دون المفهوم فان ادراكه[32]لايحتاج الى تقدير محذوف اومضمر .

والفرق بين المفهوم وبين دلالة الاشارة : ان المفهوم مقصود من قبل المتكلم اصالة وليس كذلك في دلالة الاشارة فانها تفهم عرضاً كما تقدم بيانه .

اما الفرق بينه وبين دلالة الايماء : فهو ان المفهوم يدرك من غير محل النطق بخلاف التنبيه فانه منطوق به كما تقدم[33].

هذا وينقسم المفهوم كذلك الى قسمين وهما مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة واليك تفصيل المراد منهما :

اولاً : مفهوم الموافقة: ويسمى كذلك تنبيه الخطاب ومفهوم الخطاب[34]وهو دلالة اللفظ على معنى موافق – أي مماثل - للمعنى المنطوق به كقوله تعالى : (ياءيها الذين ءامنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) [الجمعة 9].

فمفهوم الموافقة : حرمة الشراء وحرمة تقاضي الديون عند سماع الاذان من صلاة الجمعة . فانها موافقة للنهي عن البيع المنطوق به في الاية .

وتنقسم الموافقة الى نوعين ايضاً لان مماثلة المعنى اما ان تكون مساوية له أوأولى منه وهما :

1: فحوى الخطاب: وفحوى الكلام اوالخطاب وفحواؤه لغةً[35]: معنى الكلام . واصطلاحاً : دلالة اللفظ على معنى مسكوت عنه لكنه اولى بالحكم من المنطوق ومثاله قوله تعالى :{ولاتقل لهما افٍ} فالمنطوق : حرمة التأفيف للوالدين وفحوى الخطاب حرمة ضربهما . لانه اولى بالحرمة من التافيف . ومثاله ايضاً قوله تعالى :(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) [الزلزلة: ٧ – ٨ ]فالمنطوق شمول الحساب لوزن الذرة وفحوى الخطاب شمول الحساب لما فوق الذرة من اعمال بني ادم .

2 : لحن الخطاب: وهو لغة[36]مأخوذ من لحَنَ له : قال له قولاً يفهمه ويخفى على غيره . وألحنه القول : أفهمه اياه .

واصطلاحاً : دلالة اللفظ على معنى مسكوت عنه مساوٍ للمنطوق في الحكم كقوله تعالى:(ان الذين يأكلون اموال اليتاكى ظلما انماياكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ) [النساء: ١٠]

فالمنطوق : حرمة اكل اموال اليتامى ظلماً بغير حق . ولحن الخطاب : حرمة اعطاء اموال اليتامى للاخرين بغير حق . لان الحرمة متساوية سواء اخذ الوليُّ مالَ اليتيم لنفسه اواعطاه لغيره . بجامع حرمانه[37]من حقه ظلماً .

ثانيا مفهوم المخالفة : هو دلالة اللفظ على معنى مسكوت عنه هو نقيض المنطوق.فمثاله قوله تعالى : (ان الذين يأكلون اموال اليتاكى ظلما انماياكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ) [النساء: ١٠] فالمنطوق : كما مر ذكره حرمة اكل اموال اليتامى ظلماً . ومفهوم المخالفة : أن الاكل من اموال اليتامى بحق أي بغير ظلم جائز شرعاً فلايشمله الوعيد الذي في الاية .

ومثاله ايضاً قوله صلى الله عليه وسلم " اذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث [38]"

فدلالة المنطوق : عدم تاثر الماء بمجرد وقوع النجاسة فيه اذا بلغ قلتين .

ومفهوم المخالفة : تأثر الماء وتنجسه بمجرد وقوع النجاسة فيه اذا كان دون القلتين .

وقد اختلف الفقهاء والاصوليون في حجية العمل بمفهوم المخالفة على قولين :

القول الاول : جواز الاحتجاج بمفهوم المخالفة وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة بشروط سيأتي ذكرها قريباً باذن الله .

والقول الثاني : عدم حجية مفهوم المخالفة وهو مذهب الحنفية .

واحتج الجمهور بادلة منها :

1 - قوله تعالى : (كلا انهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون) المطففين: ١٥] فلما حُجب قوم عن رؤية الله تعالى بسخط الله تعالى عليهم دلّ على أن من رضي عنهم يرونه يوم القيامة وهو ماثبت[39]بالكتاب والسنة .

ومما احتجوا به ايضاً قوله r" مطل الغني ظلم [40]" فدل الحديث على ان مماطلة الفقير ليس من الظلم وهو مااتفق عليه الفقهاء .

واستدل الحنفيون بادلة منها :

قوله تعالى : ( ياءيها الذين ءامنوا لاتأكلوا الربا اضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون)[آل عمران: ١٣٠] قالوا : فالربا محرم قطعاً سواء كان مضاعفاً اوغير مضاعف فاكل الربا بغير مضاعفة محرم ايضاً بالاجماع . فدل على عدم حجية العمل بمفهوم المخالفة . واجيب عن هذه الاية بانها خرجت مخرج الغالب وهو ماكان عليه الناس في زمن الجاهلية من اكل الربا اضعافاً مضاعفة ولتقبيح فعلهم ايضاً . فلاقادح في الاية في حجية مفهوم المخالفة .

واستدلوا ايضا بقوله تعالى : (وربائبكم اللاتي في حجوركم )[ النساء: ٢٣] ومعلوم أن الربيبة التي هي بنت الزوجة محرمة على الزوج سواء كانت في حجره ام لا . فدل ذلك ايضاً على عدم حجية مفهوم المخالفة .

وأجيب عن الاية بانها خرجت مخرج الغالب ايضاً حيث تكون البنت مع امها حتى تتزوج فتلحق بزوجها .

وللفريقين ادلة اخرى آثرت الاكتفاء بماذكرتُ تجنباً الاطالة .

ولاجل ذلك فقد وضع الجمهور لجواز الاحتجاج بمفهوم المخالفة شروطاً تضبطها وتخرجها من الاعتراضات التي يوردها المخالفون وكما يلي :

1- أن لا يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، وذلك كقوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } [الإسراء23],فانه لا يفهم منه جواز الضرب، لأن الضرب المسكوت عنه أولى بالحرمة من التأفيف .

2 - أن لا يكون المنطوق خرج مخرج الغالب ، فإن خرج مخرج الغالب تعطل العمل به أيضا. كما في الايات التي ذكرت آنفاً .

3 - ان لايكون المنطوق ذكر جوابا لسؤال كقوله rعن البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته[41]" فانه لايستدل به على نجاسة ماء الانهار وحرمة اسماكها لان الحديث خرج جواباً لسؤال سأله بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن حكم الوضوء بماء البحر.

4- ان لايكون المنطوق خرج للامتنان وبيان الفضل كما في قوله تعالى : "(وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) [النحل: ١٤] فان الاية خرجت لبيان الامتنان بتسخير البحر ومافيه من نعم . فلايستدل بها على حرمة اللحم المقدد[42].

5 - أن لايكون المنطوق خرج لموافقة الواقع كما في قوله تعالى : (لايتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ الا ان تتقوا منهم تقاة) [آل عمران: ٢٨] فان الاية لايستدل بها على جواز اتخاذ الكفار اولياء مع موالاة المؤمنين لان الاية انما خرجت مطابقة لما كان واقعاً في زمن نزول الاية . فموالاة الكفار محرمة باي حال سواء مع المؤمنين او من دون المؤمنين .

6- ان لايكون المنطوق خرج للتهويل او المبالغة كما في قوله تعالى : {فلاتجعلوا لله انداداً وانتم تعلمون } فان جملة " وانتم تعلمون " جاءت للمبالغة في تقبيح صنيعهم . فلايفهم جواز الشرك بالله تعالى عند عدم العلم .

هذا ومفهوم المخالفة يأتي على انواع منها :

مفهوم الصفة : وهو مجئ الحكم مقيداً بصفة تستلزم ثبوت نقيض الحكم عند غياب تلك الصفة . كقوله تعالى : (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولاتقبلوا لهم شهادة ابدا واولئك هم الفاسقون) [النور: ٤] فتقييد الحكم بالمحصنات يدل على انتفائه عند انتفاء صفة الاحصان . ومنه كذلك قوله r: " وَفِى صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِى سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ : شَاةٌ .."[43]فدل التقييد بوصف "السائمة " على ان لازكاة في غير السائمة[44]
مفهوم الشرط : وهو مجئ الحكم مقيداً بشرط ينبني الحكم عليه . ويدل زواله[45]على زوال الحكم . وبمعنى اخر : هو دلالة اللفظ - المعلق فيه الحكم على شرط -على انتفاء الحكم عند انتفاء ذلك الشرط[46].ومثاله قوله تعالى :(وان كن اولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) الطلاق: ٦] فدل الشرط على وجوب النفقة على المطلقة المعتدة ان كانت حاملاً ودلَّ مفهومُ المخالفةِ أن المطلقة ان لم تكن حاملاً فلانفقة لها .
مفهوم الظرف سواء كان زمانياً اومكانياً كقوله تعالى : {الحجُ اشهرٌ معلوماتٌ} اي : زمان الحج في اشهر معلومات . فلايصح الحج قبلها ولابعدها .
مفهوم الغاية اي : تقييد الحكم بغاية تدل على ثبوت نقيض الحكم بعد تلك الغاية كما في قوله تعالى :( فأن طلقها فلاتحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره)[البقرة: ٢٣٠] فالحكم هنا : حرمة المطلقة ثلاثا على زوجها الذي طلقها . وهو حكم مقيد بغاية وهي قوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} فدلت هذه الغاية على انتفاء الحكم المتقدم بعد وجود الغاية وهي ان تنكح زوجاً غيره .
مفهوم العدد وهو مجئ الحكم مقيداً بعدد يدل على تأثيره في الحكم كما في قوله تعالى :(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) :{النور ٢} فالعدد هنا يدل على عدم جواز الزيادة اوالنقصان .ك
هذا ولمفهوم المخالفة انواع اخرى آثرت الاقتصار على ماتقدم تجنبا للاطالة ولكون الباقي فيه خلاف في حجيته .


[1]وفي ذلك يقول محمد بن حنبل الشنقيطي :

لاتسـؤ بالعــــلم ظناً يافتى إن سوء الظن بالعلم عطب

لايزهدك أخي في العلم أن غمر الجهال أربــاب الادب

إن تر العالم نِضواً مرمـلاً صفر كف لم يساعده ســبب

وتر الجاهل قد حاز الغنى محرزالمأمون من كل ارب

[2]بل اني اضطررت الى تسطير مسائل لااقر بها ولااراها صواباً ولكن لوازم المادة العلمية تحتم ادراجها ضمن هذا المختصر .

[3]لسان العرب مادة دل .

[4]ينظر البحر المحيط للزركشي ج2/ ص 36 بتصرف يسير .

[5]ينظر كتاب علم الدلالة للدكتور احمد مختار عمر ص 11

[6]بافراد "المعنى " اما علم المعاني فهو احد فروع علوم البلاغة .

[7]ينظر كتاب امالي الدلالات ومجالي الاختلافات للدكتور الشيخ عبدالله بن بية ص 13 ومن المفيد ان اورد هنا ماذكره في كتابه باختصار حيث قال " هذا عنوان اخترناه لتنبيه المهتمين باستنباط الاحكام من الكتاب والسنة والمتصدرين للقضاء والفتوى واساتذة الجامعات الى اهمية اتقان اللغة العربية كاتقان مصطلح الحديث اواصول الفقه وهذا المدخل هو ايضاً اهابة بطلبة الدراسات الاسلامية وكليات الشريعة الذين قد يظن بعضهم ان اللغة العربية هي شأن طلاب كلية اللغة العربية او كلية الاداب نهيب باولئك ليعطوا اللغة العربية من العناية ماتستحق فهي شرط اساسي ومفتاح ضروري لفتح ابواب الشريعة اذ بدون معرفتها تلتبس عليهم الوجوه وتلتوي بهم السبل .." اهـ

[8]وهذه المعاجم الاربعة تعد نماذج التصنيف المعجمي للغة العربية فكل واحد منها اتبع طريقة تختلف عن الاخر . فالاول رتبه على جذر الكلمة والثاني بحسب مخارج الحروف والثالث بحسب المواضيع والرابع رتبه على حروف المعجم .

[9]وهو العلم الذي يعنى بدراسة قضايا اللغة من حيث اصواتها ومفرداتها وتركيبها وخصائصها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية ومايطرأ عليها من التغييرات وما ينشأ عنها من لهجات " ينظر على سبيل المثال كتاب (فقه اللغة مفهومه موضوعاته قضاياه) تاليف محمد ابراهيم الحمد .

[10]أي فقه اللغة .

[11]فمنها الدلالة الصوتية والدلالة البصرية والدلالة الحسية ومنها الدلالة القطعية والظنية والوهمية وغيرها كثير.

[12]الدلالة غير اللفظية هي ماكان ادراك معناها بغير تلفظ وبغير صوت .

[13]او الاصوات وهي اعم من ان تكون الفاظاً .

[14]ينظر لمزيد من التفاصيل البحر المحيط للزركشي ج 2/ ص 36 ومابعدها واختلاف الاصوليين في طرق دلالات الالفاظ على معانيها لاحمد صباح الملا ص 12

[15]اعني بالفقه هنا المعنى اللغوي وهو الفهم الدقيق .

[16]فالكلمة الواحدة يختلف مدلولها باختلاف نبرة الصوت اونغمته . وهو مايميزه السامع من كيفية نطق الكلمة من قبل المتكلم فيفهم منه ان كان جادا او هازلا اومستهزئاً وما شابه من كيفية نطق الكلام .

[17]من المفيد هنا التنبيه الى ان دلالة المنطوق تدرك غالباً حتى عند التلفظ بالكلمات المفردة بخلاف دلالة المفهوم فانها تحتاج غالباً الى جمل اومجموعة كلمات لتصور المفهوم اوادراكه في الذهن .

[18]ويسمى احياناً منطوق اليه .

[19]ينظر جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية العطار ج1/ ص 316

[20]ينظر في تعريفها حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع ج1 / ص 312 ومابعدها والمحصول في اصول الفقه ج 1 / ص 219 والابهاج في شرح المنهاج ج1/ ص 203 ومابعدها .

[21]من المهم التنبيه هنا الى جواب اعتراض قد يرد على صيغة التعاريف الاتية . وهو ان التعريف لاينبغي ان يعاد فيه اللفظ المعرف فلايقال مثلاً : تعريف دلالة كذا : هو دلالة كذا وكذا . الخ . فالجواب عن هذا الاعتراض ان التعريف لايخص الدلالة بل يخص مااضيف اليها للتسليم بان معنى (الدلالة) معروف للسامع فتعريف دلالة المطابقة المقصود به بيان معنى كلمة (المطابقة) لا كلمة (دلالة) .

[22]لااكثر ولااقل .

[23]اي الذي لايشمل المعنى كاملاً .

[24]ولذلك فان تصور أي معنى اخر غير هذه الثلاثة يخرج عن دلالة اللفظ من حيث المنطوق.

[25]أي محذوف يقتضيه سياق الكلام .

[26]الحديث رواه البخاري في كتاب الاذان من صحيحه رقم 756 .

[27]القاموس المحيط ص 56 .

[28]ينظر لسان العرب مادة نبه .

[29]أي في اثناء الكلام .

[30]أي من وسائل استنباط العلة .

[31]الحديث رواه ابن ماجة في كتاب الديات من سننه 2646 وصححه الالباني .

[32]أي المفهوم .

[33]ينظر نشر البنود على مراقي السعود ج 1/ ص 94

[34]نشر البنود ج1/ ص 95

[35]القاموس المحيط ص 1320

[36]القاموس المحيط ص 1230

[37]أي اليتيم .

[38] رواه الترمذي في جامعه رقم 67 وصححه الالباني .

[39]أي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة .

[40]رواه البخاري في صحيحه رقم 2166 .

[41]رواه الترمذي في جامعه رقم 69 وصححه الالباني .

[42]أي المجفف لان الاية ذكرت اللحم الطري فقط .

[43]الحديث رواه البخاري في كتاب الزكاة من صحيحه رقم 1454 وهذا هو اللفظ الصحيح للحديث اما مااشتهر على السنة الاصوليين وهو لفظ " في سائمة الغنم زكاة " فليس بحديث انما هو لفظ ملفق من الحديث المذكور انفاً ومع ذلك فقد تناقله الاصوليون بعضهم عن بعض دون ان يكلفوا انفسهم ويبحثوا عن صحة الحديث اواصله اولفظه الصحيح حتى ان بعضهم ينسبه للبخاري وليس كذلك .

[44]المقصود بالسائمة هي التي ترعى الكلأ في المراعي دون ان يشترى او يجمع لها في موضعها الذي تبيت فيه فهذه تسمى معلوفة .

[45]أي زوال الشرط .

[46]ينظر اصول الفقه الاسلامي 1/ 350 . 

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter