المبحث الثالث : انواع الدلالة اللفظية عند الحنفية ومقارنتها بمذهب الجمهور :

للاحناف تقسيم اخر لانواع الدلالة اللفظية هي في حقيقتها مقاربة لتقسيم الجمهور وان اختلفت اسمائها وهم يجعلونها اربعة انواع ويعتبرون ماعداها من دلالات الالفاظ لاتصلح للاستدلال ووجه حصرها باربعة كون الحكم المستفاد من النظم اما ان يكون ثابتاً بنفس النظم اولا . فالاول ان كان النظم مسوقاً له فهو دلالة العبارة اون لم يكن مسوقاً له فهو دلالة الاشارة . والثاني أن كان الحكم مفهوماً منه لغة فهي عبارة الدلالة وان فهم منه عن طريق الشرع فهو الاقتضاء ومساوى ذلك عدوه من الاستدلالات الفاسدة .
ومما ينبغي التنبيه اليه هنا ان هذه الدلالات يعدونها من قبيل الاستدلال بالنص الشرعي لامن قبيل القياس او الراي او الاجتهاد . واليك بيانها :
1- دلالة العبارة : وهي لغة ماخوذة من عَبَر بالتخفيف : يقال عبر الرؤيا فسرها واخبر بما يؤل اليه امرها . وعبّر- بالتشديد – عما في نفسه اعرب عنها اي أبان مافي نفسه .
وفي اصطلاح الحنفية : المعنى الذي سيق الكلام لاجله ويعلم قبل التامل أن ظاهر الكلام متناول له . وهي تقابل دلالة المنطوق عند الجمهور . ومثال ذلك قوله تعالى : ﴿ للفقراء المهاجرين﴾ فالثابت بدلالة العبارة : هو نصيبهم من الفئ . لان الاية سيقت لذلك . هذا ودلالة العبارة تقابل دلالة المنطوق عند الجمهور .
2- دلالة الاشارة : هو المعنى الذي لم يُسق الكلام لاجله لكنه يعلم بالتأمل في معنى اللفظ من غيرتقدير زيادة فيه ولانقصان . وهي تقابل دلالة الالتزام عند الجمهور . ومثالها في قوله تعالى المتقدم وهو :﴿للفقراء المهاجرين ﴾ فدلالة الاشارة في الاية ان الذين هاجروا من مكة قد زالت املاكهم بسبب استيلاء الكفار عليها فان الله تعالى سماهم فقراء . ومثال اخر وهو قوله تعالى : ﴿وحمله وفصاله ثلاثون شهراً﴾ فدلالة العبارة : فضل الوالدة على الولد بحمله في بطنها مدة من الزمن . ودلالة الاشارة : ان ادنى مدة للحمل هي ستة اشهر فقد ثبت في اية اخرى وهي قوله تعالى : ﴿وفصاله في عامين﴾ فيبقى للحمل ستة اشهر .
واذا تعارضت دلالة الاشارة مع دلالة العبارة قدم الحكم الثابت بدلالة العبارة . ومن امثلة ذلك تعارض دلالة العبارة في قوله تعالى : (ياءيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفي له من اخيه شئ فاتباع بالمعروف واداء اليه باحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم ) البقرة: ١٧٨ ﴾ وهي : وجوب القصاص على القاتل المتعمد . مع دلالة الاشارة في قوله تعالى : (ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذاباً عظيماً ) النساء: ٩٣] وهي انتفاء القصاص عنه وذلك لترتب الخلود في جهنم وهو يستلزم ان لايكون عليه شئ في الدنيا لان الحدود مكفرة للذنب الذي حُد من اجله . فيقدم الحكم الثابت بالعبارة وهووجوب القصاص على الحكم الذي دلت عليه الاشارة . وهي تقابل دلالة الالتزام عند الجمهور.
ودلالة الاشارة كدلالة العبارة كلاهما يفيد القطع عند الاحناف .
3- دلالة الاقتضاء : وهي تقابل دلالة الاقتضاء عند الجمهور ايضاً فهما مترادفتان .
4- دلالة النص : وهي دلالة اللفظ على ثبوت الحكم المنطوق به للمسكوت عنه . لاشتراكهما في علة الحكم . وتسمى عند الاحناف ايضاً فحوى الخطاب . وهي التي تعرف عند الجمهور بمفهوم الموافقة .
المبحث الرابع : انواع الالفاظ من حيث تعلقها بالوضع :

ويشتمل على مطالب :
        المطلب الاول : الحقيقة والمجاز :

تعد مسألة الحقيقة والمجاز من المسائل المهمة التي لها شأن واثر في علوم شرعية متعددة فانك تجد اثرها في التفسير والعقيدة فضلاً عن الاصول والفقه . وقد اوليتْ لذلك اهتماماً واسعاً من كثير من العلماء بين مثبت وهم الجمهور . ونافٍ وهم بعض العلماء . فرأيت لذلك ان اقدم للمسألة بمقدمة مختصرة تتعلق باللغة العربية هي كالمدخل لمابعده .
فاقول :
    تصنف اللغة العربية على انها واحدة من اللغات السامية الحية . التي نشأت في الجزيرة العربية منذ ازمنة طويلة . ومن القوانين التي خضعت لها اللغة العربية كسائر اللغات هي قوانين التطور من لهجة فرعية عن اللغة الام الى لغة مستقلة لها قوانينها اللغوية والصوتية والنحوية والصرفية . وهذه القوانين تخضع في تكونها الى عوامل عديدة ذاتية وخارجية . طيلة عشرات بل مئات السنين . ومن هذه القوانين مايتعلق باستعمال الالفاظ للمعاني . فانها تتجاذبها اسباب كثيرة يساهم كل منها في تكوين ضوابط استعمال الالفاظ للتعبير عن المعاني . فلهذا ولاسباب اخرى ظهر التنوع في الالفاظ من حيث دلالتها على المعاني فتبرز ظواهرها في الترادف والاشتراك والتضاد ومايسمى بالحقيقة والمجاز وهو اصطلاح لم يكن معروفاً عند العرب انما استحدثه المتأخرون لاسباب لغوية واصولية وعقائدية نتجاوز عن ذكرها تجنبا الخروج عن المقصود .
ولابد من التنبيه هنا الى ان اصطلاح المجاز بالمعنى الذي اشار اليه المتأخرون من الاصوليين وغيرهم . لم يكن معروفاً في القرون الثلاثة الاولى التي كانت اعرف بالعربية وابعد عن التأثر بمظاهر العجمة التي تفشت فيما بعد . واليهم التعويل في اثبات العربي من الدخيل وعنهم نقلت قوانين العربية وعلومها من نحو وصرف وبلاغة وفقه اللغة وغيرها . مما يدل على ان هذا المعنى الذي ادعاه مثبتوا المجاز محدث لم يكن معروفا عند العرب . وبالتالي لاوجود له في لغتهم .
ومن الغريب ان المثبتين جعلوا في مقدمة طرق معرفة المجاز التنصيص عليه من قبل علماء العربية ونقلتها كالاصمعي والفراهيدي وسيبويه . وهم مع ذلك لم ينقلوا عن واحد منهم انه قال هذا المعنى حقيقة وهذا المعنى مجاز. اما مانقل عن بعض أئمة العلم من ذكر المجاز كابي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القران وما نقل كذلك عن الامام احمد من استعماله للفظ المجاز فانهم لم يقصدوا المعنى الاصطلاحي . كما هو بيّن من كلامهم .
ومن قوادح استدلال المثبتين اقرارهم بالحقيقة العرفية والشرعية . ولم يتفقوا على وصف منضبط لها . وانى لهم ان يفرقوا بين المجاز الشرعي والحقيقة الشرعية . الا التكلف والاتيان بما لاطائل تحته من اقاويل وحجج واهية .
وحقيقة الامر ان اللغة العربية لاتكاد تخلو منها لفظة مفردة الا ولها اكثر من معنى وهذه المعاني قد تكون متساوية في درجة تواردها لفهم السامع وهي التي اصطلح عليها بالالفاظ المشتركة او تتفاوت في ذلك وهي الذريعة التي تمسكوا بها في اثبات المجاز. مع اقرارهم ان كلا من الحقيقة والمجاز قد تنقلب الى مايقابلها بكثرة الاستعمال اوقلته فيصير المجاز حقيقة اذا غلب استعماله وتصير الحقيقة مجازاً اذا قلّ استعمالها . وهذا الضابط ينسف ما أصّلوه من أن الحقيقة هو اللفظ المستعمل لما وضع له ابتداءً . والمجاز اللفظ المستعمل بوضعٍ ثانٍ . مع اعتراض اخر وهو مالدليل على ان المعنى الحقيقي وضع له ذلك اللفظ ابتداء . ثم وضع ذلك اللفظ لمعنى اخرالذي هو المجاز؟ وليس لهم جواب الا بالاصل الفاسد الذي تمسكوا به وليس لهم سواه . وهو ان المعنى الحقيقي هو الذي يسبق فهمه الى ذهن السامع عند التجرد من القرائن . مع أن الباحث في قوانين التطور اللغوي يجد ان المعاني والالفاظ يزحف بعضها على بعض بحسب ظروف وضوابط يطول المقام بذكرها فقد يُهجر اللفظ ويصير منسياً ويتعارف للمعنى بلفظ اخر يصير هو الاصل في الدلالة على ذلك المعنى ثم قد يعود ذلك اللفظ المهجور لذات المعنى او لمعنى اخر . فالالفاظ في حركة مستمرة وان كانت بطيئة في تواردها على المعاني وهذه الحركة تخضع لاسباب كثيرة قد يخرج بعضها عن كونه ذو صلة مباشرة باللغة . وهذه الحركة المستمرة تبعثر ما سطره مثبتوا المجاز من تأصيل لنصرة مذهبهم .
مع التنبيه الى أن مسألة المجاز لاينحصر اثرها – بل خطرها – في مباحث الاصول بل اتخذت ذريعة لتأويل النصوص من الكتاب والسنة وابطال معانيها الحقيقية بدعوى ان ظواهرها من قبيل المجاز الذي يصح نفيه .
ولاجل هذا الاستحداث ولاعتبارات لغوية وعقائدية خاصة كما مرت الاشارة . فقد نشأ الخلاف بين اهل العلم في اثبات اونفي هذا التقسيم على مذاهب مع التنبيه الى ان حقيقة الخلاف انما هي في اثبات المجازفحسب . اذ لاخلاف – اجمالاً- بين اهل العلم على اثبات الحقيقة وفي انها الاصل وهذا الخلاف هو كما يلي :
    المذهب الاول : اثبات المجاز في اللغة وفي الكتاب والسنة وهو ماذهب اليه الجمهور. وفي اقوالهم اختلاف يسير . فمنهم من منعه في بعض النصوص الشرعية ومنهم من اثبته في الالفاظ المفردة دون المركبة .
    المذهب الثاني : نفي وجود المجاز في اللغة وفي الكتاب والسنة وهو مذهب ابي اسحق الاسفرائيني وابي علي الفارسي وابي بكر بن داود الظاهري وابن خويز منداد المالكي ومنذر بن سعيد البلوطي وابن تيمية وابن القيم . والشنقيطي .
   المذهب الثالث : ان اللغة اغلبها مجاز وهو مذهب ابي عثمان ابن جني .
     هذا والخوض في حجة كل مذهب يقتضي التطويل فمن اراد التفصيل فليرجع الى الكتب التي اعتنت بذكر الخلاف في المسألة .
والحقيقة لغة : ماخوذة من الفعل حقَّ يحقّ وهو يدل على احكام الشئ وصحته فالحق نقيض الباطل .
اما اصطلاحاً ففي تعريفها خلاف والمختار من تلك التعاريف انها : لفظ مستعمل فيما وضع له ابتداءً .
وهي ثلاثة انواع :
النوع الاول الحقيقة اللغوية : وهي اللفظ المستعمل في معناه اللغوي اصالة . كاستعمال الذئب للحيوان المفترس .
النوع الثاني الحقيقة الشرعية : هي اللفظ المستعمل في معناه الموضوع له من قبل الشرع . او هي اللفظ الذي عرف معناه من قبل الشرع . كلفظ الايمان والصلاة .
النوع الثالث الحقيقة العرفية : وهي قسمان :
       ا- حقيقة عرفية عامة : هي اللفظ المستعمل في معنى عرفي عام كاستعمال لفظ الدابة لذوات القوائم الاربع .
       ب – حقيقة عرفية خاصة : هي اللفظ المستعمل في معنى عرفي خاصة يصطلح عليه جماعة اوطائفة معينة . وتسمى حقيقة اصطلاحية . كالمرفوع والمنصوب عند النحاة والصحيح والضعيف عند المحدثين .
ويقابل هذه الحقائق اربعة انواع من المجازات وهي :
النوع الاول : مجاز لغوي كالاسد للشجاع والنخلة للطويل .
النوع الثاني : مجاز شرعي : كاستعمال العقد في البيع والشراء .
النوع الثالث : مجاز عرفي : وهو قسمان ايضاً :
      ا- مجاز عرفي عام كاطلاق الدابة على البليد .
      ب – مجاز عرفي خاص كاستعمال النحوي مصطلح :" الحال" للدلالة على ماهو عليه الانسان من خير اوشر .
اما المجاز : فهو لغة ماخوذ من : الفعل جازَ الموضع جوازاً ومجازاً سار فيه وخلفه . والمجاز الطريق اذا قُطع من احد جانبيه الى الاخر .
واصطلاحاً : اللفظ المستعمل بوضعٍ ثانٍ لعلاقة . وقيل لقرينة بدل العلاقة . وهذه القرائن انواع منها :
الاولى : دلالة الاستعمال والعادة مثل الصلاة قالوا : انها حقيقة لغوية في الدعاء ثم اريد بها العبادة المعروفة مجازاً .
الثانية : دلالة اللفظ نفسه مثل من حلف ان لايأكل لحماً . فانه لايشمل السمك مع انه من جنس اللحم . وتصح ان تكون قرينة عرفية فان العرف يقصر اللحم غالباً على اللحم الاحمر .
الثالثة : دلالة سياق الكلام كما في قوله تعالى : ﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾ فتركت حقيقة الامروالتخيير بقرينة قوله تعالى بعده ﴿انا اعتدنا للظالمين ناراً ﴾ فدل على ان الامر والتخيير للتوبيخ والتهديد .
الرابعة : دلالة حال المتكلم : مثل مَن دُعي الى غداء فقال : والله لااتغدى . فالمعنى الحقيقي يشمل كل غداء فيحنث باكله . ولكن قرينة حال الحالف تدل على ان المراد الغداء المدعو له فقط لاغيره .
اما مسوغات المجازوتسمى علاقات المجاز ويقصد بها الصلة التي سوغت العدول الى المعنى المجازي فهي انواع كثيرة منها :
1- المشابهة وهي اكثرها كقولنا زيد اسد . اي يشبه الاسد في شجاعته .
2- الظرفية : وهي اطلاق الظرف على المظروف .كالغائط فانه المكان الذي تقضى فيه الحاجة .
3- الكونية : ويسمى المجاز الكوني : ويقصد به اطلاق اللفظ على الشئ باعتبار ماكان او ماسيكون فمثال الاول : قوله تعالى :﴿وءاتوا اليتامى اموالهم﴾ اي حين يبلغون فيكون يتمهم باعتبار ماكانوا عليه قبل البلوغ . لان اليتيم من فقد اباه قبل البلوغ . ومثال الثاني : قوله تعالى ﴿اني اراني اعصر خمراً﴾ اي باعتبار انه سيكون خمراً وانما المعصور هو العنب وسيؤل حاله الى ان يتحول الى خمر .
4- التضاد وهي تسمية الشئ باسم ضده واكثر مايقع في المقابلات كقوله تعالى ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ فاطلق على الجزاء سيئة مع انه عدل لكونه ضدها .
5- المجاورة : وهي تسمية الشئ باسم مايجاوره كتسمية الراوية على القربة التي هي وعاء للماء فان الراوية في الاصل اسم للبعير ثم اطلق على القربة لمجاورته لها .
وقيل غير ذلك .
وقد ذكر اهل العلم ممن تكلم في اصطلاحي الحقيقة والمجاز اسباباً لاستعمال المعنى المجازي والعدول عن المعنى الحقيقي ومجملها فيما يلي:
      منها تعذر الحمل على المعنى الحقيقي كمن قال : لاتأكل من هذه القدر فيقع المعنى على مايحتويه القدر لتعذر الاكل من ذات القدر المعدني.
    ومنها : هجر المعنى الحقيقي : كمن حلف الا يأكل من هذا الدقيق فيقع على مايصنع منه وهو الخبز .
ومنها : قبح التصريح باللفظ الحقيقي فيصار الى المجاز كاستعمال لفظ الغائط للدلالة على مايخرج من الانسان من فضلات .
ومنها : تفهيم المعقول في صورة المحسوس كقوله تعالى ﴿واشتعل الراس شيباً ﴾
المطلب الثاني في المشترك :

واما المشترك فهو لغة : مِن شَرَك . والشركة مخالطة الشريكين . قال ابن فارس " الشين والراء والكاف : اصلان احدهما يدل على مقارنة وخلاف انفراد والاخر يدل على امتداد واستقامة . فالشركة وهو ان يكون الشئ بين اثنين لاينفرد به احدهما ويقال : شاركتُ فلاناً الشئ اذا صرت شريكه وأشركت فلاناً اذا جعلته شريكاً لك .. " اهـ
واما اصطلاحاً فهو : اللفظ الموضوع لاكثر من معنى بوجه متساوٍ وضعا متعدداً . كالعين فانها تدل على الباصرة والجارية والجاسوس .
وانما جئ بقيد "بوجه متساوٍ" لاخراج اللفظ المستعمل في الحقيقة والمجاز لانه وان دل على اكثر من معنى فانه ليس بوجه متساوٍ لان الحقيقة ارجح من المجاز .
واما قيد "وضعا متعدداً" فلإخراج العام فانه يدل على متعدد لكن بوضع واحد .
ولورود اللفظ المشترك اسباب منها :
1- اختلاف الوضع اللغوي بين القبائل العربية فقد يتعارف ابناء قبيلة على دلالة لفظ على معنى ما . ويتعرف ابناء قبيلة اخرى على معنى اخر لنفس اللفظ .
2- تطور الاستعمال اللغوي – وهو مااشرت له انفاً – فقد يوضع لفظ لمعنى عام يجمع بين معانٍ متعددة . كلفظ المولى فانه يدل على الناصر فهو يشمل العبد والسيد بالاشتراك المعنوي . ثم تعارف العرب على اطلاق لفظ المولى على العبد وعلى السيد على انفراد فصار من قبيل الاشتراك اللفظي .
3- تطور استعمال المجاز حتى يشتهر فيصبح بقوة الحقيقة في الدلالة . فيصبح اللفظ مشتركاً .
ولما ثبت وجود المشترك في القران والسنة فمن ثَم اختلف الفقهاء والمفسرون والاصوليون في جواز حمل اللفظ المشترك على معنييه على مذاهب وهي على سبيل الاختصار كما يلي :
القول الاول : جواز حمل المشترك على معنييه عند عدم وجود قرينة تعين المراد وهوالمنسوب للشافعي وقطع به ابن ابي هريرة من فقهاء الشافعية وابوبكر الباقلاني من المالكية . وصححه المرداوي وقال : " وعليه اكثر اصحابنا " أي من الحنابلة . ونقله ابوالمعالي عن مذهب المحققين وجماهير الفقهاء وحكي عن اكثر المعتزلة واكثر الحنفية وعن ابي يوسف ومحمد ونسبه القاضي عبدالوهاب لمذهبهم قال : وهوقول جمهور اهل العلم . ومما احتجوا به قوله تعالى : (ان الله وملائكته يصلون على النبي ياءيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )[الأحزاب: ٥٦] فان الصلاة من الله تعالى غير الصلاة من الملائكة .
وقد جعلوا لجواز الحمل على سائر معاني المشترك شروطاً وهي :
       أ – ان يدل على كل معنى من المعاني دليل معتبر من الشرع او من اللغة .
ب – ان لايمنع الجمع بين هذه المعاني مانع شرعي .
جـ – ان لايؤدي الجمع بينها الى تعارض او تناقض .

القول الثاني : الجواز في حالة النفي لا الاثبات لان النكرة في النفي تعم وهو وجه لبعض الشافعية وظاهر كلام الحنفية .
القول الثالث : صحة استعماله إن كان جمعاً أومثنى وامتناعه ان كان مفرداً لان الجمع في حكم تعدد الالفاظ ونسبه االمرداوي لبعض الشافعية .
القول الرابع : صحة استعماله ان تعلق احد المعنيين بالاخر كما في قوله تعالى : (أو لمستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) [المائدة] . فان كلاً من اللمس باليد والوطء لازم للاخر .
ويتفرع عن هذه المسألة : مسألتان اخريتان :
الاولى : حمل اللفظ على حقيقته ومجازه في آن واحد .
والثانية حمل المجازين في لفظ واحد وفي جواز كل منهما اقوال فاما الاولى :
1- القول الاول جوازحمل اللفظ على حقيقته ومجازه في آن واحد وهو مذهب الشافعي وجمهور اتباعه كما قال النووي في باب الايمان من كتاب الروضة .
2- القول الثاني : المنع وهو المنسوب للحنفية وبعض الشافعية . قالوا : لان الحقيقة اصل والمجاز مستعار فلايتصور اجتماعهما .
اما المسألة الثانية ففيها خلاف كالخلاف السابق ايضاً . ونقل الزركشي عن الصفي الهندي قوله :" وشُرط للجواز أن لاتكون تلك المجازات متنافية كالتهديد والاباحة . اذا قلنا ان صيغة الامر حقيقة في الايجاب مجاز في الاباحة والتهديد.."اهـ

مسالة : في الفرق بين المشترك اللفظي والمشترك المعنوي :
من المفيد هنا تكميلا للفائدة بيان الفرق بين المشترك اللفظي وهو الذي تقدم ذكره انفاً والمشترك المعنوي ويسمى احياناً القدر المشترك اوالمعنى المشترك وذلك في وجوه وهي :
1- ان المشترك للفظي : لفظ منطوق به بخلاف المشترك المعنوي فانه من قبيل المعاني وليس من قبيل الالفاظ .
2- ان كلاً من المشترك اللفظي والمشترك المعنوي يدلان على معانٍ متعددة . فالمشترك اللفظي لفظ يشترك فيه اكثر من معنى اومسمى والمعنوي وصف يشترك فيه مجموعة من الاسماء اوالمسميات .
3- ان معنى الاشتراك في اللفظي هو معنى شامل لكن على سبيل البدل . بمعنى انه وان دل على كل مسمياته لكن على ارادة واحد منها اصالة . اما معنى الاشتراك في المعنوي فهو التضمن لذلك القدر الذي يجمع تلك المسميات . ومثاله دلالة الامر . قال بعض الاصوليين يدل على الوجوب وقيل على الندب وقيل على الاباحة . فالمعنى الذي تتضمنه هذه المعاني وهو الطلب هو المشترك المعنوي بين هذه الاصطلاحات .
المطلب الثالث : اصول الدلالة الشرعية في كل من الحقيقة والمجاز والمشترك :

لابد من معرفة الصلة بين هذه الاصطلاحات التي سوغت جمعها في مبحث واحد وهذه الصلة هي كون هذه الاقسام كلها تحتمل اكثر من معنى بوضع واحد والفرق كما تقدم التنبيه لذلك ان المشترك يدل على معانيه بصورة متساوية اما الحقيقة والمجاز فان الاول هو الراجح والثاني هو المرجوح اصالة .
وعند ورود الفاظ تحتمل الاشتراك اوالحقيقة والمجاز فللعلماء قواعد ضابطة للترجيح بينها . ولابد في هذا المقام من ذكر شئ من التأصيل فيما يتعلق بالترجيح بين هذه الاصطلاحات عند ورودها :
الضابط الاول : ان الاصل حمل اللفظ على الحقيقة الابدليل . ويعبر عنه بقولهم الاصل في الكلام الحقيقة . ولذلك قالوا : اذا تعارضت الحقيقة والمجاز فالحقيقة اولى في الجملة لانها الاصل وانما محل الخلاف اذا ترجح المجاز حتى يصير معادلاً للحقيقة لاشتهاره فيصير حقيقة شرعية اوعرفية اوتدل قرائن على ضعف الحقيقة اللغوية حتى تتساوى مع المجاز ففي ذلك اقوال وهي باختصار :
القول الاول : تقديم الحقيقة اللغوية وان كانت مرجوحة لانها الاصل وهو قول ابي حنيفة .
القول الثاني : تقديم المجاز لغلبته وهو قول ابي يوسف من الاحناف وابي الخطاب من الحنابلة ومنسوب لاكثر الحنابلة .
القول الثالث : انه مجمل وهو اختيار الرازي في المعالم في اصول الفقه . والبيضاوي وعزي للشافعي .
واما في النصوص الشرعية فتقديم المعنى الشرعي على المعنى اللغوي عند تعذر الجمع وجعلوا لذلك - اي لجواز الجمع بين المعنى اللغوي والشرعي - شروطاً :
1- ان يدل على كل معنى من المعاني دليل معتبر .
2- ان لايؤدي الحمل على كلا المعنيين تعارض اوتناقض .
3- ان لايمنع من الحمل على الجميع مانع شرعي او لغوي .

الضابط الثاني : ان النقل خلاف الاصل فإن تردد اللفظ بين ان يكون منقولاً وكونه باقياً على معناه اللغوي فالثاني أولى . فان ثبت النقل الشرعي كان هو الاصل عند الاحتمال بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي . فيقدم المعنى الشرعي على المعنى اللغوي .
الضابط الثالث : ان الاصل عدم الاشتراك الا بدليل ايضاً . فان دل دليل على ثبوت الاشتراك فينظر ان وجدت قرائن تبين المعنى المراد فيصار اليه عندئذٍ . وان عدمت القرينة اوخفيت فالخلاف كما تقدم في حمل المشترك على معانيه .
فان دلّ الدليلُ على احتمال التجوز اوالاشتراك فقيل يقدم المجاز على المشترك وهو ماذهب اليه السبكي وتابعه ابوزرعة العراقي . وهو مارجحه المرداوي ايضاً وتبعه ابن النجار الحنبلي في شرح الكوكب المنير ونسبه لابن مفلح . واختيار القرافي في تنقيحه . وان تعارض النقل والاشتراك فالجمهور على تقديم النقل ايضاً .
الفصل الثالث
في دلالة الامر والنهي
المبحث الاول في دلالة الامر :
ويشتمل على مطالب :
المطلب الاول في معنى الامر لغة واصطلاحاً :

اما لغة فهو : ضد النهي وهو معروف .
واما اصطلاحاً : فهو اقتضاء فعل غير كَف على جهة الاستعلاء .
شرح التعريف : قوله "اقتضاء فعل " اي : طلب الاتيان بفعل ويشمل الامر والنهي ,
وقوله "غير كَف " خرج به النهي لانه طلب الكف عن الفعل اوالامتناع عن الفعل . وليس الاتيان به .
وقوله "على جهة الاستعلاء" : اي كون الامر صادرا من اعلى مرتبة لمن هو اسفل منه .
وللامر معانٍ عديدة اوصلها بعض الاصوليين الى ست وثلاثين معنى ولايخلو بعضها من تكلف اوتكرار اواعتراض واليك بعض هذه المعاني :
1- الوجوب : كقوله تعالى :﴿واقيموا الصلاة ﴾
2- الندب : كقوله تعالى : ﴿فكاتبوهم ان علمتم فيه خيراً﴾
3- الاباحة : كقوله تعالى ﴿كلوا من الطيبات﴾
4- التهديد : كقوله تعالى ﴿اعملوا ماشئتم﴾
5- الارشاد : كقوله تعالى ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم﴾
6- الانذار : كقوله تعالى ﴿قل تمتعوا فان مصيركم الى النار﴾
7- الامتنان : كقوله تعالى ﴿وكلوا ممارزقكم الله﴾
8- التكوين : كقوله تعالى : ﴿كن فيكون﴾
9- التعجيز : كقوله تعالى ﴿فأتوا بسورة من مثله﴾
10- الاهانة : كقوله تعالى ﴿ذق انك انت العزيز الكريم﴾
11- التسوية : كقوله تعالى ﴿ فاصبرو او لاتصبروا﴾
12- التكذيب : كقوله تعالى ﴿ فأتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين﴾

المطلب الثاني : في دلالة الامر على الوجوب

وهذه المسألة هي من اهم مسائل الامر. لترتب كثير من الاحكام الشرعية عليها . وبناء على ماتقدم من تعدد استعمالات صيغة الامر فقد اختلف الاصوليون في دلالة صيغة الامر التي هي "افعل" عند غياب القرينة التي تعين المعنى المراد وذلك على اقول اجملها فيما يلي :
المذهب الاول : ان الامر للوجوب فقط . مجاز في الصيغ الباقية وهو قول جمهور الفقهاء وجماعة من المتكلمين ونُسب للشافعي . قال الزركشي " اما الشافعي فقد ادعى كلٌ من اهل هذه المذاهب أنه على وفاقه وتمسكوا بعبارات متفرقة في كتبه " .
المذهب الثاني : انه حقيقة في الندب وهو قول كثير من المتكلمين ونسب للمعتزلة .
المذهب الثالث : انه حقيقة في الاباحة التي هي ادنى المراتب وهو منسوب لبعض الشافعية .
المذهب الرابع : انه مشترك بين الوجوب والندب ونسب لبعض الرافضة .
المذهب الخامس : انه حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب لكن يحكم بالوجوب ظاهراً في حق العمل احتياطاً دون الاعتقاد وهو قول الماتريدي .
المذهب السادس : انه حقيقة في الطلب مجاز فيما سواه قال الامدي وهو الاصح .
المطلب الثالث هل الامر يفيد التكرار :

لاخلاف بين الاصوليين ان الامر ان ورد مقيداً بطلب تكرار الفعل فانه يحمل على التكرار وإن ورد بما يدل على الاكتفاء بمرة واحدة فان الامتثال يحصل بمرة واحدة . فان ورد الامر مطلقاً دون بيان كون المطلوب على التكرار ام لمرة واحدة فهنا حصل الخلاف :
المذهب الاول : انه لطلب فعل الماهية . اي من غير دلالة على الفعل لمرة اواكثر من مرة - اي التكرار- لكن المرة من ضروريات الاتيان بالمأمور به . وهو مذهب السبكي والرازي ورجحه الامدي وتبعه ابن الحاجب . ونقل الزركشي عن صاحب اللباب من الحنفية والباجي من المالكية قولهم : "هو قول عامة اصحابنا "
المذهب الثاني : انه يدل على المرة بلفظه وأن هذا مدلوله فلايحمل على التكرار الابدليل وحكاه ابواسحق الشيرازي عن اكثر الشافعية وصححه ونسبه العراقي لابي حنيفة .
المذهب الثالث : انه للتكرار المستوعب لزمان العمر إجراء له مجرى النهي الاأن يدل دليل على انه اريد مرة واحدة ونسبه الزركشي خطأً لابي اسحق الشيرازي وقد تقدم ماصرح به في كتابه . وهو منقول لبعض المالكية والحنابلة .
المذهب الرابع الوقف في الكل . قال الزركشي " وهو رأي القاضي ابي بكر وجماعة الواقفية بمعنى انه يحتمل المرة ويحتمل لعدد محصور زائد على المرة والمرتين ويحتمل التكرار في جميع الاوقات " اهـ .
المطلب الرابع في الامر بعد النهي :

وهذه من المسائل المهمة المتعلقة بدلالة الامر وكثيرا مايعمل بمقتضاها في النصوص التي يرد علها النسخ . فعلى القول بان الامر يدل على الوجوب فماهو حكمه اذا ورد بعد النهي ؟ في المسألة اقوال وهي باختصار كمايلي :
القول الاول : انه للوجوب كما لولم يتقدمه نهي . قال الزركشي " وصححه القاضي ابو الطيب الطبري في "شرح الكفاية" وابواسحق السمعاني في قواطع الادلة .
القول الثاني : انه للاباحة ونقله ابن برهان في الوجيز عن اكثر الفقهاء والمتكلمين وبه جزم القفال الشاشي . وهو المفهوم من كلام الشافعي حيث قال : واوامر الله تعالى ورسوله تحتمل معاني منها الاباحة كالاوامر الواردة بعد الحظر كقوله تعالى ﴿ واذا حللتم فاصطادوا ﴾ ﴿فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله ﴾ .
القول الثالث : التفصيل وهو ان كان الحظر السابق عارضاً لعلةٍ وسبب وعُلقت صيغة: "افعل" بزوالها كقوله تعالى ﴿واذا حللتم فاصطادوا﴾ فان الحظر السابق انما يثبت لسبب . فهذا وامثاله اذا وردت صيغة "افعل" معلقة برفعه دل على عرف الاستعمال على انه لدفع الذم فقط . وان كان الحظر السابق قد عرض لالعلة ولا ان صيغة افعل علقت بزوال ذلك كالجلد المامور به عقيب الزنا بعد النهي عن الايلام فتبقى صيغة "افعل" على مادلت عليه قبل ذلك .
القول الرابع : الوقف بين الاباحة والوجوب ونُسب للمتكلمين واختاره امام الحرمين الجويني .
القول الخامس :انه للاستحباب وبه جزم القاضي حسين من الشافعية .
القول السادس : انه يزيل الحظر السابق ويعيد الحكم الى ماكان عليه قبل الحظر .
المطلب الخامس في الامر بشئ نهي عن ضده :

ومثال المسألة اذا ورد الامر الشرعي بفعلٍ ما فهل يستلزم النهي عن ضده ؟ وتحرير محل النزاع ان الامر بشئ ان كان له ضد واحد كصوم العيد فالنهي عن صومه امر بضده وهو الفطر . وهذا لاخلاف فيه . وان كان له اضداد كالامر بالقيام فان له اضداداً من القعود والركوع والسجود والاضطجاع فهذه كلها تخالف القيام . فهو محل الخلاف :
1- فقيل : انه يستلزم النهي عن جميع اضداده .
2- وقيل بل يستلزم نهياً عن واحد من تلك الاضداد . ونسب الزركشي لامام الحرمين قوله انه : " الذي ذهب اليه جماهير الاصحاب .." اهـ اي من الشافعية .
3- وقيل انه يقتضي كراهة ضده سواء كان له ضد واحد اواضداد متعددة . واختاره السرخسي في اصوله .   

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter