مقدمة

إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره . ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا . من يهدِه اللهُ فلامضل له . ومن يضلل فلاهادي له . وأشهد ان لااله الا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .

    وبعـــــد :

فان الله تعالى قد رحم العالمين بانزال كتابه الحكيم فجعله تاماً وشاملاً لكل مايُصلح احوال العباد . ثم شفعه بسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم . فكانت مع القران العظيم الشريعة الاكمل . والمنهج الامثل . لصلاح العباد . في دينهم ودنياهم . فحوت بماتضمنه الوحيان . كل ماينفعهم ممايجلب لهم المصالح اويدرأ عنهم المفاسد ،

وكان هذا الشمول على وجهين :

الاول : منصوص عليه من الكتاب اوالسنة

والثاني : مستنبط من المنصوص بطرق الاستنباط المعروفة لدى الاصوليين كالقياس وغيره .

فاما المنصوص فهو مما تعلق بالواقع من النوازل في زمن نزول الوحيين . واما المستنبط فتنزيله لايزال الى قيام الساعة بحسب مايقع من نوازل اوحوادث عامة كانت اوخاصة . وانما ذلك من قبل من تأهل للنظر في النصوص الشرعية وصارت عنده ادوات الاجتهاد وذلك من فضل الله تعالى العظيم .

وكان لابواب البيوع والتجارات حظ وافر لإعمال النظر من قبل المجتهدين لاستنباط مزيد من الاحكام لما يستجد من ضروب البيع والتجارة مما لم يكن موجوداً في زمن نزول الوحي .

ثم انه من اهم ضروب المعاملات المالية التي شاعت والتي كان لها النصيب الاعظم في باب التكسب واستقطاب رؤس الاموال ابتداءً من الافراد الى مستوى الدول ذلكم هو الشركات فقد صار لها اثر عظيم في حياة الافراد بل وحتى مصير دول برمتها . فقد تعاظم شأن بعضها حتى باتت تؤثر على قرارات بعض الدول بل وربما التحكم في مصير بعض اخر. ومن وجه اخر فقد تنامت رؤوس الاموال في بعض الشركات حتى فاقت خزائن دولٍ برمتها .

من اجل ذلك ولمقاصد اخرى . فقد اخترت ان يكون بحثي تأصيلياً لاحكام الشركات خروجاً عما تعورف عليه من بحوث في هذا الباب من عرض تقليدي لاحكامها اواقسامها وليكون كالمدخل التشريعي لتأصيل استنباط الاحكام المتعلقة بالشركات بسائر انواعها .

ولعلمي ان موضوع البحث متشعب ويتناول مسائل شتى في علوم شرعية لاتنحصر في الفقه فحسب بل تشمل التفسير والحديث والاصول وقواعد الفقه واللغة . فكان بديهياً ان يكون الاستيعاب شاقاً وطويلاً جداً لايتناسب مع مقاصد كتابة هذا البحث . لذا فقد حرصت على اختصار مادته . وتاجيل التفاصيل الاخرى لوقت ملائم باذن الله تعالى .

والله تعالى اسأل ان يعينني على اتمامه على اخلص وجه واتقنه واكمله. وان يمنحه القبول انه سميع عليم .

 

 

 

وكتبه

عبدالقادر شاكر

 

 

 

خطة البحث :

واتماما للفائدة وتيسيراً لتصور مسائل البحث فقد صدرته بعناوينه التي هي خطته :

الفصل الاول : تمهيد في معنى الشركة لغة واصطلاحاً واقسام الشركات قديماً وحديثاً.

الفصل الثاني : تقرير قاعدة : الاصل في العقود والمعاملات الاباحة .

الفصل الثالث : في بعض احكام الوكالة التي تنبني عليها عقود الشركات.

الفصل الرابع : التاصيل من الكتاب والسنة .

الفصل الخامس : التاصيل بالرجوع الى الاجماع والقياس .

الفصل السادس : التاصيل بالرجوع الى الاستصحاب .

الفصل السابع : التاصيل بالرجوع الى المصالح المرسلة .

الفصل الثامن : التاصيل بالرجوع الى الاستحسان .

الفصل التاسع : التاصيل بالرحوع الى القواعد الفقهية .

 

 

وهذا اوان الشروع في المقصود :

 

 

الفصل الاول : تمهيد في معنى الشركة لغة واصطلاحاً واقسام الشركات قديماً وحديثاً

 

الشركة لغة : ماخوذة من الشَرْك : بفتح الشين وتسكين الراء قال ابن فارس " الشين والراء والكاف : اصلان احدهما يدل على مقارنة وخلاف انفراد . والاخر يدل على امتداد واستقامة . فالشركة وهو ان يكون الشئ بين اثنين لاينفرد به احدهما ويقال : شاركتُ فلاناً الشئ اذا صرت شريكه وأشركت فلاناً اذا جعلته شريكاً لك ..[1] " اهـ

وقال الفيومي : " شركته في الامر أُشْرَكه من باب تعِبَ . شَرِكاً وشَرِكةً وزان كلم وكلمة بفتح الاول وكسر الثاني اذا صرت له شريكاً . وجمع الشريك شركاء[2] .."اهـ

ومن المفيد ان يُعلم ان المراد باصطلاح الشركة عند الفقهاء اجمالاً نوعان :

      الاولى : شركة املاك وهي التي ينظر لها على اساس وجود الشركة في الشئ المملوك بغض النظر الى القصد من وجود ذلك الاشتراك . فليس المراد منه الربح وماشابه وذلك كاشتراك الورثة بالموروث ونحوه . وليست المقصودة بالبحث هنا فنعزف عن التفصيل فيها .

      الثانية : شركة العقود وهي ان يتعاقد اثنان فاكثر للاشتراك في مال اوعمل وهي المقصودة بالبحث .

     وقد حصل اختلاف طويل بين الفقهاء في تعريفها وذلك لاسباب منها تنوع الشركات واختلاف احكامها واختلاف انظارالفقهاء في التكييف الفقهي اوالتصور الشرعي للمراد من الشركة واليك بيان طرف مما قالوا في تعريفها :

جاء في معجم المصطلحات المالية والاقتصادية[3] " هي اختلاط نصيبين فصاعداً بحيث لايتميز احدهما من غيره ثم اطلق اسم الشركة على العقد وان لم يوجد اختلاط بين النصيبين . وقيل هي اجتماع شخصين فاكثر في استحقاق اوتصرف "اهـ

وعرفها ابن قدامة بقوله " هي الاجتماع في استحقاق اوتصرف "[4] واراد بالتعريف كلاالنوعين الذَين سيرد ذكرهما قريباً .

    وعند الحنفية : الشركة عبارة عن عقد بين المتشاركين في الاصل والربح[5].

وهم اكثر من توسع في جوازها فاجازوا جميع انواعها دون استثناء وجعلوها قسمين اجمالاً[6] :

الاول شركة مفاوضة والثاني شركة عنان وكل منها تنقسم عندهم الى ثلاثة اقسام وهي شركة اعمال واموال ووجوه .

    وعند المالكية :هِيَ إذْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَشَارِكَيْنِ لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، أَوْ بِبَدَنِهِ لَهُمَا أَيْ لَهُ وَلِشَرِيكِهِ أَيْ أَنْ يَتَصَرَّفَ لَهُ وَلِشَرِيكِهِ مَعَ أَنْفُسِهِمَا أَيْ مَعَ تَصَرُّفِهِمَا أَنْفُسِهِمَا أَيْضًا[7]

وتنقسم عندهم اجمالاً الى ثلاثة انواع[8] :

الاول : شركة الاموال وتنقسم عندهم الى ثلاثة اقسام مفاوضة ومضاربة وعنان .

الثاني : شركة ابدان .

الثالث : شركة وجوه او الذمم . وهي باطلة عندهم .

    وعند الشافعية : ثبوت الحق ولو قهراً شائعاً في شئ لأكثر من واحد . اوعقد يقتضي ذلك كالشراء[9] .

وتنقسم عندهم[10] بالجملة الى اربعة انواع وهي :

 الاول : شركة العنان .

الثاني : شركة الابدان وهاتان صحيحتان عندهم .

الثالث : شركة المفاوضة وهي باطلة عندهم لاشتمالها على الغرر .

الرابع : شركة الوجوه وهي باطلة كذلك بكل صورها .

     وعند الحنابلة[11] : عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعٍ فِي اسْتِحْقَاقٍ، أَوْ تَصَرُّفٍ. فَالْأَوَّلُ: شَرِكَةُ مِلْكٍ أَوْ اسْتِحْقَاقٍ. وَالثَّانِي: شَرِكَةُ عُقُودٍ. وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا.

وهي تنقسم عندهم[12] الى خمسة انواع : شركة عنان وابدان ووجوه ومضاربة ومفاوضة . وجعلها ابن مفلح[13] باعتبار الصحيح منها اربعة اقسام وهي شركة المضاربة وشركة العنان وشركة الوجوه وشركة الابدان .

ومن الالفاظ ذات الصلة مصطلح الخليط وهو لغة : ماخوذ من : خلطه يخلطه وخلّطه مزجه فاختلط وخالطه مخالطة وخِلاطاً مازجه "[14] .

وميز بعض اهل العلم بين الشريك والخليط . فقال ابن رشد الجد " ولا يكون الرجل شريكاً للرجل إلا إذا شاركه في رقاب الأموال على الإشاعة. وأما إن لم يشاركه في رقاب الأموال فليس شريكا وإنما هو خليط ، فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريكاً. والخلطة أعم من الشركة"[15]

وبالجملة فان مناهج الفقهاء في تاصيل احكام الشركات قد انقسمت بين موسع ومتوسط ومضيق فاما الحنفية والزيدية فهم اكثر الفقهاء توسعاً في تجويز احكام الشركات وتوسط الحنابلة والمالكية فاجاز الحنابلة الكل الاشركة المفاوضة واجاز المالكية الكل الا شركة الوجوه اما الشافعية والظاهرية فقد ضيقوا واسعاً فمنعوا سائر انواع الشركات الا شركة العنان والمضاربة[16] .

ومما ينبغي التنبه اليه في هذا المقام ان فقهاء المذاهب لم يلتزموا ضوابط اوقواعد مطردة في تاصيل احكام الشركات فكانت ضوابط وقواعد الاحكام العامة نصب اعين الجميع ولكن مظان اعمالها كانت تختلف بحسب اجتهادات المفتين والمجتهدين منهم . لذلك تجد عدم اطراد الاختيارات الفقهية لكل مذهب في تفاصيل احكام الشركات . بل تجد المذهبين او الثلاثة او الاربعة يجتمعون في مسالة ويختلفون في اخرى . فيجتمعون في اعمال دليل اوضابط اوتعليل في مسالة ما . ويفترقون في مسألة مشابهة تتطلب الدليل او التعليل ذاته ممايبين اعمال النظر وتحكيم الاجتهاد في تقديم اوتاخيردرجات التعليل وترتيب الادلة .

فالاختلاف الحاصل بين الفقهاء لا لخفاء بعض الادلة عن بعضهم وظهورها لاخرين بل – وهو الغالب – ان ماسيرد من بيان لمجمل الادلة هو معلوم منتشر بين الفقهاء ولكن تقديم اوترجيح بعضها على بعض هو السبب الاعم والاهم في شيوع وكثرة الاختلاف الحاصل بين الفقهاء فيما يتعلق باحكام الشركات .

 

الفصل الثاني : تقرير قاعدة : الاصل في العقود والمعاملات الاباحة :

 

وهذه القاعدة هي فرع عن قاعدة أعم تتفرع منها قواعد شتى تدور على ألسنة الاصوليين والفقهاء بالفاظ متقاربة ومن ذلك[17] :

الاشياء على الاباحة حتى يرد الشرع بالمنع . ومنها الاصل في الاشياء الحل ومنها الاصل في الاعيان الحل . والحل هو الاصل في الاشياء والاصل في المنافع الاذن وفي المضار المنع .

اما قاعدة الباب وهي الاصل في العقود الاباحة فهي من القواعد الهامة والكلية في ابواب المعاوضات المالية من بيوع واجارات وشركات وجعالات والمعاملات المصرفية المعاصرة . الى غير ذلك من صنوف المعاملات اوالمعاوضات. وقد ترد بلفظ : الاصل في البيوع الاباحة[18] .

واعلم ان هذا التاصيل بالغ الاهمية في باب المعاملات المالية عامة وعقود المعاوضات خاصة فانه الاساس الذي تنبني عليه مالايحصى من الاحكام الجزئية المتعلقة بعقود المعاوضات ومنها عقود الشركات خاصة. واساس هذا التأصيل هو قوله تعالى :{هو الذي خلق لكم مافي الارض جميعاً }البقرة: ٢٩] .

وقوله تعالى : {وسخر لكم مافي الارض جميعاً منه} [الجاثية: ١٣]

قال القرطبي عند تفسيره للاية التي من سورة البقرة " استدل من قال : ان اصل الاشياء التي ينتفع بها الاباحة بهذه الاية وماكان مثلها كقوله تعالى : {وسخر لكم مافي الارض جميعاً منه } الجاثية: ١٣] حتى يقوم دليل الحظر وعضد هذا بأن قال : إن الماكل الشهية خلقت مع امكان ألا تخلق فلم تخلق عبثاً فلابد لها من منفعة . وتلك المنفعة لايصح رجوعها الى الله تعالى لاستغنائه بذاته فهي راجعة الينا ومنفعتنا إما في نيل لذتها او في اجتنابها لنختبر بذلك . او في اعتبارنا بها ولايحصل شئ من تلك الامور الابذوقها فلزم أن تكون مباحة . وهذا فاسد لانا لانسلم لزوم العبث من خلقها الالمنفعة بل خلقها كذلك لانه لايجب عليه اصل المنفعة بل هو الموجب ولانسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ولاحصول بعض تلك المنافع الابالذوق بل قد يستدل على الطعوم بامور اخر كما هو معروف عند الطبائعيين[19] " اهـ .

وفي ذلك يقول الامام الشافعي رحمه الله تعالى " فأصل البيوع كلها مباح اذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الامر فيما تبايعا الاما نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وماكان في معنى مانهى عنه رسول الله صلى اله عليه وسلم محرم باذنه داخل في المعنى المنهي عنه ومافارق ذلك ابحناه بما وصفنا من اباحة البيع في كتاب الله تعالى[20] " اهـ

وذهب بعض اهل العلم الى تأصيلٍ اعم من ذلك وهو ان الاصل في جميع المنافع الاذن وفي المضار المنع[21] . قال الزركشي ناقلاً كلام القاضي عبدالوهاب " زعم قوم من الفقهاء أن الشرع قد قرر الاصل في الاشياء على انها للاباحة الاما استثناه الدليل وفائدة ذلك أنه اذا وقع الخلاف في حكم شئ في الشرع هل هو على الاباحة اوالمنع حكم بأنه على الاباحة لان الشرع قد قرر ذلك " اهـ .

ومما احتجوا به على ان الاصل في المنافع الاباحة قوله صلى الله عليه وسلم " الحَلاَلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ"[22]

ومما ينبغي التنبه له استثناء الاموال من عموم اباحة المنافع فان الاصل فيها الحرمة لقوله صلى الله عليه وسلم "فَإنَّ دمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ"[23]

وبالنظر لاهمية هذا الاصل فقد رأيت من المفيد نقل مزيد من اقوال اهل العلم على اختلاف مذاهبهم في تقريره . ولبيان اثره في تاصيل احكام الشركات وتوسيع تفاريعها المباحة .

ومن ذلك ماقاله الامام ابن تيمية " ومعلوم أن البيع والاجارة والهبة نحوهما لم يحد الشارع لها حداً لافي كتاب الله ولاسنة رسوله ولانقل عن احد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة من الالفاظ أو غيرها اوقال مايدل على ذلك من انها لاتنعقد الابالصيغ الخاصة بل قد قيل : إن هذا القول ممايخالف الاجماع القديم وانه من البدع ...

وتصرفات العباد من الاقوال والافعال نوعان : عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون اليها في دنياهم فباستقراء اصول الشريعة نعلم أن العبادات التي اوجبها الله اواحبها لايثبت الامر بها الابالشرع واما العادات فهي مااعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون اليه . والاصل فيه عدم الحظر فلايحظر منه الاماحظره الله سبحانه وتعالى وذلك لان الامر والنهي هما شرع الله .. والعادات الاصل فيها العفو فلايحظر منها الاماحرمه والا دخلنا في معنى قوله تعالى :{ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله }[24] " اهـ

وقال ابن رشد[25] في المقدمات : " الأشياء الموجودة بأيدي الناس تنقسم على قسمين أحدهما ما لا يصح ملكه. والثاني ما يصح ملكه ؛ فأما ما لا يصح ملكه، فلا يجوز بيعه بإجماع، كالحر والخمر والخنزير والقرد والدم والميتة وما أشبه ذلك، وأما ما يصح ملكه، فإنه ينقسم على قسمين: أحدهما : ما لا يصح بيعه - إما لأنه على صفة لا يجوز بيعه عليها كالعبد الآبق والجمل الشارد، وتراب الصواغين، وما أشبه ذلك؛ وإما لأن الشرع حرم بيعه كالأوقاف، ولحوم الضحايا - عند جماعة العلماء، والمصحف عند بعضهم، والكلب المأذون في اتخاذه عند بعض أصحابنا. والثاني : يصح بيعه ما لم يقع على وجه يمنع الشرع منه " اهـ

وقال ابن القيم في رده على من عكس القاعدة وادعى ان الاصل في المعاملات الفساد حتى يقوم الدليل على الجواز: " اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة فاذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط اوعقد او معاملة استصحبوا بطلانه فافسدوا بذلك كثيراً من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناءً على هذا الاصل وجمهور الفقهاء على خلافه . وأن الاصل في العقود والشروط الصحة الا ماأبطله الشارع اونهى عنه . وهذا القول هو الصحيح فان الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم . ومعلوم أنه لاحرام الا ماحرمه الله ورسوله . ولاتأثيم الا ماأثّم الله ورسوله به فاعله . كما أنه لاواجب الا ماأوجبه الله . ولاحرام الا ماحرمه الله ولادين الا ماشرعه الله فالاصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الامر . والاصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم .

والفرق بينهما أن الله سبحانه لايُعبد الا بما شرعه على ألسنة رسله . فان العبادة حقّه على عباده . وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه . واما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها . ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الاصلين وهو تحريم مالم يحرمه . والتقرب اليه بما لم يشرعه وهو سبحانه لو سكت عن اباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفواً لايجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فان الحلال ماأحله الله والحرام ماحرمه وماسكت عنه فهو عفو فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فانه لايجوز القول بتحريمها فانه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان واهمال فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الاباحة فيما عدا ماحرمه[26] .."اهـ مختصراً

الفصل الثالث : في بعض احكام الوكالة التي تنبني عليها عقود الشركات :

 

 ذهب كثير من الفقهاء الى ربط الشركة بالوكالة بأكثر من صورة فذهب بعضهم الى قياس الشركة على الوكالة وذهب اخرون الى جعل الشركة فرعاً عن الوكالة وقيل غير ذلك ومسوغ هذا الارتباط هو كون الشركة فيها معنى التفويض الذي يتضمنه معنى الوكالة ايضاً .

ومن هنا فكان لزاماً ذكر طرف من احكام الوكالة لكونها مرجعاً مهما في استنباط كثير من احكام الشركات لدى كثير من الفقهاء . مع التنبيه الى انه ليس القصد من عقد هذا الفصل استيفاء كل احكام الوكالة اوالتعرض للخلافيات التي تتضمنها وانما اقصد عرضا مجملا للوكالة لاستكمال التصور المتعلق بصلتها بالشركات . لذا فساقتصر على عرض مختصر لاحكام الوكالة الا ماكان له صلة موصلة الى موضع التقائها مع احكام الشركات

 فاقول ومن الله العون :

الوكالة بفتح الواو وكسرها في الغة : الحفظ ومنه الوكيل من اسماء الله تعالى بمعنى الحافظ[27] . واختلفت اقوال الفقهاء في تعريفها اصطلاحاً . واليك بعض ماقالوا :

فاما الحنفية فعرفوها بانها اقامة الغير مقام نفسه ترفهاً اوعجزاً في تصرف جائز معلوم[28]

وعرفها المالكية : بانها نيابة ذي حق غير ذي إمرة ولاعبادة لغيره فيه غير مشروط بموته[29] .

وعرفها الشافعية : بانها تفويض شخص ما له فعله مما يقبل النيابة الى غيره ليفعله في حياته[30] .

وعرفها الحنابلة بانها : استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخل النيابة من حقوق الله تعالى وحقوق الادميين[31] .

ويتحصل من مجموع هذه الاقوال ان مبنى الوكالة على النيابة وان ماتصح به النيابة تصح به الوكالة تبعاً ولذا فقد ذهب بعض العلماء الى اعتبار الوكالة فرعاً عن النيابة او انها اعم من الوكالة . وقيل بل هما مترادفان[32] .

اما ما تصح به الوكالة فذهب الفقهاء الى ان الوكالة تصح فيما تصح في النيابة كالبيع والشراء والجعالة والاجارة واقتضاء الدين وقضائه وعقد النكاح والطلاق واقامة الحد وبعض القرب . ولاتجوز في اعمال البدن المحضة كالصلاة والطهارة والحج .

اما اركانها : ذهب جمهور الفقهاء الى ان اركان الوكالة هي الصيغة والعاقدان اي الوكيل والموكل[33] . في حين ذهب الحنفية الى ان ركن الوكالة هو الايجاب والقبول لان وجود هذا الركن يستلزم بالضرورة وجود الركنين الاخرين[34] .

وقد جعل الفقهاء للوكالة شروطاً لاتصح بمخالفتها فقالوا لابد من ان يكون محل التوكيل قابلاً للنيابة كالبيع والحوالة والضمان وسائر العقود والفسوخ والشركات والطلاق والنكاح ولاتجوز في العبادات البدينة . وتجووز في المالية كالزكاة والحج .

واختلفوا في ابوابٍ اخرى فتجوزالوكالة عند الامام مالك في استيفاء العقوبات وعند الامام الشافعي مع الحضور قولان . وهو لايجيز الوكالة العامة لكونها غرر .

ومما يتعلق باحكام الشركات وهو راجع الى احكام الوكالة هو ماذهب اليه جمهور الفقهاء من أن في مقدمة الشروط العامة للشركات ان تكون قابلة للوكالة[35] وتتضمن قابلية التصرف المتعاقد عليه للوكالة ليتحقق مقصود الشركة وهو الاشتراك في الربح لان سبيل ذلك أن يكون كل من الشركاء وكيلاً عن انصبة البقية واصيلا عن نصيبه . والا فالاصيل يختص بكل ربحه اصالة ولايجوزالتصرف في مال الغير الا بولاية اووكالة . وحيث لاولاية هنا فلم يبق الا الوكالة .

ويلحق بشرط قابلية الشركة للتوكيل ان يكون لكل من الشركاء اهلية التوكيل والتوكل . لان كلاً من الشركاء موكِّل وموكَّل في آن واحد فلزم لذلك ان يكون متصفاً بالوجهين . ومع اتفاق الفقهاء بالجملة على هذا الشرط بفرعيه الا انهم اختلفوا في مظان اعماله في احكام الشركات . فقد ذهب الاحناف الى بطلان الشركة في الاعمال المباحة وعللوا ذلك بان الشركة تتضمن معنى الوكالة والتوكيل في اخذ المال المباح باطل[36] .

بل ذهب الشافعية الى ان الشركة في حقيقتها وكالة وتوكيل[37] .

وكذلك من ذهب الى عدم جواز الفسخ اوالتراجع عن الشركة الا باذن الشريك اواعلامه انما قاسوه على احكام الوكالة .

ومنها قول ابي حنيفة : ماتجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة ومالاتجوز فيه الوكالة لاتجوز فيه الشركة[38] .

ومنها قول الدسوقيفي حاشيته على الدردير في شرحه لمختصر خليل فيما تجوز به الشركة : " وانما تصح من اهل التوكيل والتوكل . اي انما تصح ممن كان متأهلاً لان يوكل غيره ويتوكل لغيره لان العاقدين للشركة كل واحد منهما وكيل عن صاحبه وموكل لصاحبه فمن جاز له أن يوكل ويتوكل جاز له أن يشارك ومن لا فلا[39] " اهـ

ومنها كذلك قول ابن قدامة[40] " وشركة العنان مبنية على الوكالة والامانة لان كل واحد منهما بدفع المال الى صاحبه أمنه وبأذنه له في التصرف وكله . ومن شرط صحتها أن يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف فان اذن له مطلقاً في جميع التجارات تصرف فييها وان عين له جنساً اونوعاً اوبلداً تصرف فيه دون غيره لانه متصرف بالاذن فوقف عليه كالوكيل " اهـ

 

 

 

٭ ٭ ٭

 

 


[1]معجم مقاييس اللغة ص 535

[2]المصباح المنير ص 311

[3]ص 260

[4]المغني ج7/ ص 109

[5]اورد هذا التعريف محمد التمرتاشي في تنوير الابصاروهو اصل الحاشية التي صنفها ابن عابدين ينظر الكتاب مع الحاشية المذكورة ج 6/ ص 466

[6]ينظر الفقه الاسلامي ج4 / ص 590 .

[7]مواهب الجليل شرح مختصر خليل ج 5 / ص117

[8]ينظر المقدمات الممهدات 3 / ص 34 ومابعدها

[9]ينظر تحفة المحتاج بشرح المنهاج ج 5/ ص 281 .

[10]روضة الطالبين ج3 / ص 507

[11]ينظر الانصاف مع الشرح الكبير ج 14 / ص 5

[12]المغني ج 7/ ص 109

[13]في كتابه الفروع ج 7 / ص 82 ومابعدها .

[14]القاموس المحيط ص 665

[15]المقدمات الممهدات ج 3 / ص 33

[16]ينظر الفقه الاسلامي وادلته ج 4 / ص 590 ومابعدها .

[17]ينظر كتاب الاصل في الاشياء الاباحة ص 11 ومابعدها .

[18]ينظر كتاب الاصل في الاشياء الاباحة ص 140.

[19]تفسير القرطبي ج 1م ص 377

[20]كتاب الام ج 4 / ص 5و6

[21]ينظر البحر المحيط ج 6/ ص 12

[22]الحديث رواه الترمذي 1726 وحسنه الالباني .

[23]قطعة من حديث رواه الامام احمد رقم 14365

[24]مجموع الفتاوى ج 29 / ص 12و13 باختصار وتصرف يسير .

[25]ينظر المقدمات الممهدات 2/61

[26]اعلام الموقعين 3/107 ومابعدها .

[27]الموسوعة الفقهية ج 45 / ص 5

[28]ينظر حاشية ابن عابدين ج 8/ 241

[29]مواهب الجليل 5/ 181 وجواهر الاكليل 2/ 125

[30]نهاية المحتاج ج5/ ص 14

[31]كشاف القناع ج 8/ ص 412

[32]ينظر الموسوعة الفقهية ج 45 / ص 5 ومابعدها . وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ج3 / ص 377.

[33]الموسوعة الفقهية ج 45 / ص 8

[34]ينظر المصدر السابق .

[35]ينظر الموسوعة الفقهية ج 26 / ص 43

[36]ينظر الفقه الاسلامي وادلته ج 4 / 624

[37] ينظر مغني المحتاج ج 2/ ص 274

[38]الفقه الاسلامي 4/ 607

[39]حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج3 / ص 348

[40]المغني 7/ 128

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter