/ بقلم الدكتور : بلال البحر

 

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى...وبعد:

فقد تعرض الرئيس التركي أوردوغان لسيل من النقود والردود حين وقع في غضون كلامه ما يقتضي أن مسلماً صينياً سبق كولومبس إلى كشف الأميركتين.

ومع أن هذا النقد لاموقع له, وكون مكتشفهما مسلماً لامدفع له, إلا أن تعيين قومية أو عرق المـُكتشف عسر ومتعذر, بيد أن محاولة جحد كونه مسلماً مكابرة أو ضرب في حديد بارد.

وقد قضى بعض الأعلام كأبي الثناء الأصفهاني وأبي الريحان البيروني والشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي, بوجود أميركا ومن يقطنها بمحض العقل الذي يقرر أن ما انكشف من الأرض عن البحر في الجانب الشرقي للأرض, يستوجب نظيره في الجانب الغربي, ولا مانع من وجود مَنْ يعيش فيه, كما يوجد مثله في الشرقي.!

وذكر الجغرافيون وقائعَ تنبئ بهذا وتقرّره, فحكاية المغَّرَّرين وهم شبان من عرب الأندلس, يقودهم خشخاش فتى لشبونة البرتغال, سيرتها ذائعة, وشهرتها كالشمس في الرابعة, فإنهم على ما حكاه المسعودي وغيره وصلوا إلى البحر الكاريبي في المائة الرابعة من الهجرة, أي قبل كولومبس بنحو خمسمائة سنة, والتقوا بملك تلك النواحي, وخاطبوه بلسانهم العربي الذي تولى ترجمتَه عربيٌ يقيم هناك.!

وقد ساق خبرهم على الوجه الإدريسيُّ في (نزهة المشتاق) فقال: (ومن مدينة لشبونة كان خروج المغرّرين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه, كما تقدم ذكرهم, ولهم بمدينة لشبونة بموضع بمقربة الحمّة, درب منسوب إليهم يُعرف بدرب المغرّرين إلى آخر الأبد, وذلك أنهم اجتمعوا ثمانية رجال كلهم أبناء عمٍّ, فأنشئوا مركباً حمالاً وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر, ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح الشرقية, فجروا بها نحواً من أحد عشر يوماً, فوصلوا إلى بحر غليظ الموج, كدر الروائح, كثير التروش, قليل الضوء, فأيقنوا بالتلف, فردّوا قلاعهم في اليد الأخرى, وجروا مع البحر في ناحية الجنوب اثني عشر يوماً, فخرجوا إلى جزيرة الغنم, وفيها من الغنم ما لا يأخذه عدٌّ ولا تحصيل, وهي سارحة لا راعي لها ولا ناظر إليها, فقصدوا الجزيرة فنزلوا بها, فوجدوا بها عين ماء جارية, وشجرة تين بري, فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها, فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب اثني عشر يوماً, إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث, فقصدوا إليها ليروا ما فيها, فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك, فأُخذوا وحُملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر فأنزلوا بها, فرأوا فيها رجالاً شقراً زعراً, شعور رؤوسهم سبطة, وهم طوال القدود, ولنسائهم جمال عجيب, فاعتقلوا منها في بيت ثلاثة أيام, ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي, فسألهم عن حالهم وفيما جاؤوا وأين بلدهم, فأخبروه بكل خبرهم, فوعدهم خيراً, وأعلمهم أنه ترجمان الملك, فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك, فسألهم عما سألهم الترجمان عنه, فأخبروا بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب, ويقفوا على نهايته, فلما علم الملك ذلك ضحك, وقال للترجمان خبر القوم أن أبي أمر قوماً من عبيده بركوب هذا البحر, وأنهم جروا في عرضه شهراً إلى أن انقطع عنهم الضوء, وانصرفوا من غير حاجة ولا فائدة تجدي, ثم أمر الملك الترجمان أن يعد القوم خيراً, وأن يحسّن ظنهم بالملك ففعل, ثم انصرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية, فعُمر بهم زورق وعصبت أعينهم وجرى بهم في البحر برهة من الدهر, قال القوم قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها حتى جيء بنا إلي البر, فأخرجنا وكتفنا إلى خلف, وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس, ونحن في ضنك وسوء حال من شدة الكتاف, حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس, فصحنا بجملتنا, فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة, فحلونا من وثاقنا, وسألونا فأخبرناهم بخبرنا, وكانوا برابر, فقال لنا أحدهم أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا لا. فقال إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين, فقال زعيم القوم: وآ أسفي. فسُمي المكان إلى اليوم آسفي, وهو المرسى الذي في أقصى المغرب).أ.ه

وهذا يؤكد ما حُكي عن الرحالة الإفريقي الشهير بابن فاطمة, وهو ليبيٌ من برقة, رحل قبل المغرّرين بدهر, حتى قيل إنه بلغ إلى ما يقال له اليوم (السلفادور).! وما نقله المسعودي من أن ابن سيّد القرطبي أبحر عبر بحر الظلمات إلى هناك وعاد سالماً غانماً.!

وإن أنسَ لا أنسَ خبر ملك التكرور (السنغال وما حولها) وهو الملك منسى موسى ومن قبله السلطان محمد بن قو حاكم مالي, اللذين أعدّا قبل كولومبس بنحو القرن أو أزيد, أسطولاً كانا على رأسه ومقدّمه, فبلغ إلى ما بلغه المغرّرون, لكنه هلك.

وأين هؤلاء النُّقاد من حديث ابن الوردي في (تاريخه) عن الأميركتين وجزيرة الطيور التي فيها.!؟ أم أين هم من وصف الإدريسي وابن شيخ الربوة والبكري وابن فضل الله العمري وابن خلدون وغيرهم لجزرها وبحارها في (مصنّفاتهم).!؟

ألم يأتهم والأنباء تنمى وصف ابن الزيات للأميركتين في خرائطه التي رسم فيها صورة الأرض, وكلهم كانوا قبل كولومبس بدهر.!؟

ألم يطرق مسامعهم تعريض ابن ماجد الملّاح لها في (منظومته) في علم البحار, ووصف عبد الرحمن البغدادي لها في رحلته المسماة (مُسلّية الغريب) وقد وصل هناك مع أسطول عثماني, وشاهد فيها مسلمين.!؟

 وما ذكره ابن القوطية عن ابن فروخ الأندلسي الذي رحل إلى الجزر الخالدات وهي جزر الكناري.!؟

 أولم يطالعوا مذكرات كولومبس نفسه؟ أليس قد جاء فيها أنه رأى مسجداً في جبل بكوبا, وأنه رأى في الهندوراس مسلمين من عرب إفريقيا السود من قبيلة المامي.!؟

أليس ما سطره باري في كتاب (قصة أميركا) وما كتبه كراتشوفسكي عن الوجود الإسلامي بَلْهَ العربي في الأميركتين قبل كولومبس, يؤكد أن نقد هؤلاء صيحة في واد, ونفخة في رماد.؟

أم أن الأمر بينهم وبين أوردوغان كما قيل:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه...فالكلُّ أعداءٌ له وخصومُ

كضرائر الحسناء قُلْنَ لوجهها.....حسداً وبغياً إنه لدميمُ

 أليستْ أميركا في كتابات الساميين هي (الأرض المجهولة)؟ أرض الخلاص والمخلّص التي يشع منها نور (ديفل) وابنه (666) الذي يخلق الجيوش على الشاطئ, ويقلب الإنسان على أخيه؟ والتي وقع ذكرها في العهدين.!؟

أليستْ عند العقلاء والمنصفين محور كلّ شرّ في العالم الحديث.؟

ويظل الأعجب قول من يقول من الكُتّاب الراديكاليين الإسلاميين إن مُكتشف أميركا هو الشيطان وذرّيته!! لقد صدق شيخ المعرة:

تضِلُّ العقولُ الهزبرياتُ رُشدها...ولايسلمُ الرأيُ القويمُ من الأفنْ

وقد كان أربابُ الفصاحة كلما...رأوا عجباً عدّوه من صنعة الجنْ

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد, أصل كل خير وسلام إنساني, وقامع كل شرّ وظلم شيطاني.

 

 

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter