وهم الإقناع والاقتناع

كتبه: عبدالقادر شاكر.

 

يَحكمُ سلوكَ الإنسانِ، وقرارتِهِ وسائِرَ تعاملاتِه - في حال الاختيار- قناعاتٌ أودعها عقلَهُ، يخضع لها، ويحتكم إليها.

وسواءً كانت تلك القناعات: دينية، أو اجتماعية، أو عَمَلِيَّة، وسواءً كانت في مجال تخصصه، أو في غير تخصصه، فهو يرى أنَّ تلك القناعات قد اطمأنَّت لها نفسه في صحتها وأهليتِها لاتخاذها مَرجعاً في تحكيم سائِرِ أفعالِهِ وأقوالِهِ، بناءً على أنَّها قد مرّت في عقله بِمُنخل الاقناع، وأوصلها مرحلة الاقتناع.

وكل ذلك عند التأمل وهْمٌ كبيرٌ، يَغفل عنه أكثر الناس؛ إذ إنَّ تلك «القناعات» لم تخضع في حقيقتها لغربال «الاقتناع»، وما يستلزمه ذلك الغربال من استدلال معتبر، بحسب ميدان المعرفة التي تنتمي إليه تلك «القناعة».

 

فأمامُنا معضلتان لا انفكاك منها:

 الأولى: وهي أنَّه ليس بوسعِ كلِّ إنسانٍ أنْ يمتلك أهلية البحث والنظر والاستدلال في كل ميدان من ميادين العلم والمعرفة، تؤهِّله لصناعة قناعاته بمعايير العلم والاستدلال المعتبرة، وبالتالي فليس له إلّا تقليد غيره مِمَّن يظن أنه أعلم منه في ذلك الميدان، والخضوع له، بناءً على أنَّه أعلم منه أو أخْبر، فيما يجهله أو يعجز عن صناعة قناعاته فيه بنفسه.

 

والثانية: وهي أدهى وأمر، وهي أنَّ مراحل الاقناع، وتحقق الاقتناع من عدمه، بين المتجادِلِين لا يخرج عن أربعة أحوال، فإنَّه في حال عرض مسألةٍ ما على إنسان، يظن أنها تعارض ما ثبت عنده من قناعات أو ثوابت، فإنّ المعارِض لقناعات ذلك الإنسان المتلقي:

  • إمَّا أن يكون -بحسب ظنِّه- أعلم منه، وحينها يكون لذلك الظن أثر في تقبّله لأدلَّة معارِضِهِ وطريقة استدلاله، ومِنْ ثّمَّ: سهولة تحقيق الاقتناع، إذ يكون ما يُلقيه عليه ذلك المعارِض محمولٌ على أفضليته في الفهم، وأسبقيته في العلم، وبالتالي فهو سهل الانقياد لما يقول، وسريع الاقتناع بما يعارِض ما عنده؛ لِظَنِّهِ أنَّ المعارِض له: أعلم وأفهم منه، مع افتراض كونه محلاً للثقة.
  •  
  • أو أن يكون ذلك المعارِض مساوٍ له –بحسب ظنِّه- في علمه أو معرفته بما يعارضُهُ فيه، وهنا يتَّسِع ميدانُ الجدل، والاستدلال؛ لكونهما متساويان في حصيلتهما المعرفية، فليست قناعات معارِضِه أولى بالقبول والخضوع من قناعاته هو.
  •  
  • أو أن يكون ذلك المعارض أدنى منه -بحسب ظنِّه- عِلْماً ومعرفةً فيما يعارضه فيه، وحينها يكون غالب ما يلقيه على مسامعه محمولٌ على الشك أو الرفض، دون تكلُّفٍ في عرض كلامه إلى أهلية الاستدلال، وإمكان الإقناع.
  • أو أن يكون ذلك المعارض مجهولَ الحالِ، بالنسبة له -أعني بالنسبة للمتلقي-، وهذا لا يختلف كثيراً عن حال الثالث؛ إذ إنَّ حال الناس في مثل هذا الجدال: حمل المجهول على الجاهل، غالباً.

وليس القصد من هذا العرض أنَّ ردود أفعال المتلقِّين لما يعارضهم لا يخرج عن تلك الأحوال الأربعة، إنما القصدُ: أنَّ لحال المعارِض - بل كل مجادل بوجه عام- نصيبٌ كبير في تكوين القناعات، وأثر خطير في تحقيق الاقتناع.

وبالتالي فإنَّ ما يتوهمه أكثر الناس من أنَّ ما في أذهانهم -من قناعات- هي صحيحة لا شك فيها، إنما بنيت في حقيقة الأمر على أسس غير علمية، وتأثرت عند تكوينها في الذهن بمؤثرات قادحة ومشككة في صحتها.

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter