لكل علمٍ قواعده ، فلا ينفرد الفقه بالقواعد ، بل للتفسير قواعد ، وللنحو قواعد ، ولعلوم العقيدة قواعد ، ولعلم التزكية قواعد أيضاً ، وهذا مما يجهله كثيرٌ من المشتغلين بطلب العلم .
فأحببتُ أن أكتب في بعض فوائد هذه القاعدة الرائعة من القواعد الكلية في علم التزكية .
ولا أخفيكم أني كلما استغرقتُ في تأمل معانيها تدفق على ذهني سيل من روائع الفوائد و دقائق الفرائد ؛ لما تحويه ألفاظ هذه القاعدة - على وجازتها - من أسرار تنكشف لمتأملها بحسب مبلغه من مقتضياتها .
و هذه القاعدة رغم غزارة معانيها إلا أنها تشير لبعضٍ من فوائد قوله تعالى : ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ ) [الرعد ١٧]
فسبحان الله ما أعظم كلام الله وما أجزل معانيه ، فالماءُ النازلُ من السماء لا يعلم عظمه وغزارته إلا الله تعالى ، لكن لكلَّ وادٍ نصيبه من ذلك الماء -المدد- وهذا النصيب إنما يكون بحسب سعته – استعداده - .
فالله تعالى يعامل عبده بحسب ما يطيق وبحسب ما يستحق ، لا بحسب ما يتمناه ويرجوه هو ؛ فقد يتمنى ما لايطيق ويرجو ما لا يستحق .
وهذا الاستعداد الذي يتفاوت الناس فيه هو أهم أسباب تفاوتهم في تلقي تلك الإمدادات .
فمبنى الاستعداد يتحقق من ثلاثة موارد هي :
الأول : منزلة العبد في مراتب الإيمان .
الثاني : قوة مداركه - درجة ذكائه و رجاحة عقله .
الثالث : مبلغه من العلم والفهم .
فعلى قدر تفاوت الناس في هذه الموارد : تتفاوت و تتلون الإمدادات التي يتلقونها من الله تعالى ؛ فإن من الموارد ما لا تطيقه بعض العقول ، و إن من الموارد ما لا يستحقها ضعاف الإيمان ، و إن من الموارد ما لا يعرف قدرها بل و لا يحتملها إلا الراسخون في العلم .
ثم قد تُحجب عن العبدِ أنوارٌ ، أو يُحرم من نوعٍ من الإمداد رغم قوة إيمانه ورجاحة عقله ورِفعة علمه ؛ بمعصية يقترفها أو طاعة يتركها ، ومن هنا فإن أسباب الحرمان لا تنحصر في قصور العبد من تلك المراتب الثلاثة المشار إليها آنفاً .
...