لطالما حذر بعض العلماء من التحزب - بالمفهوم المعاصر لهذه الكلمة - وأن الحزبية بدعة منكرة حدثت في الازمنة الاخيرة ، تؤدي الى تمزيق المشتغلين بالعلم والدعوة الى الله ومن ثم تمزيق أتباعهم ... وكان من لوازم هذا التحذير : حرمة ما ينبني على تلك الحزبية من خوض في العمل السياسي ، في سياق الوصول الى الحكم والسلطة .

وكان موقف المسلمين قد انقسم منذ عقود ، و إلى يومنا هذا إلى قسمين إجمالاً :

 القسم الأول : مَن تابع هذا الفريق مِن أهل العلم بين مقلد ومتبع لهم .

والقسم الثاني : وهم المعارضون المؤوّلون لما احتج به المانعون من حجج في تأييد مذهبهم ، و رَأوا أن هذا القول بل هذا المذهب هو مذهب بعيد عن فهم النصوص ، متخلف ، متحجر ، لا يتماشى مع متطلبات العصر و لوازمه – و أن وسائل الدعوة الى الله تعالى ليست توقيفية ، بل قابلة للاجتهاد والتعديل والتطوير ، بل والتبديل .

وكان من أبرز ما ذكره أهلُ العلمِ المانعون من التحزب - ومن ثم المنع من العمل السياسي عن طريق الحزبية - هو التأصيل المبني على كون الحزبية بدعة ، والناظر إلى ذلك التأصيل نظر الفقيه الحاذق يتبين له أن الحكم ببدعية التحزب وكذا حرمة العمل السياسي ليس هو من قبيل التحريم الاصلي – أو المحرم لذاته - بل هو من باب سد الذرائع ، باعتبار ما تؤدي إليه تلك الحزبية من شق الصف الاسلامي والانحراف في الولاء والبراء لصالح الحزب أو الجماعة و من ثَمَّ اشتعال العداء بين المسلمين ؛ لاجل مصالح الجماعة وكل ذلك قد حصل ولايزال يحصل ، وما هو أشد من ذلك أيضاً .

ومع ذلك فقد تلقى المقلدون بل والمتبعون أيضاً لاهل العلمِ - المانعين – تلقوا هذا المنع بشئ من الجمود وعدم إثراء هذه القضية بالتأصيل والتفصيل العلميين الرصينين ، لتدعيم ما ذهب إليه اولئك العلماء ، وهذا ما وسّع دائرة الاعتراض عليهم واتهامهم بقصور النظر ، واستطراد مخالفيهم بالانتقاص منهم بالقول وبالعمل ، والاستشهاد بوقائع من تجاربهم رأوا أنها تدعم وتُصوّب مذهبهم[1] ....

فلاشك أن هذا التحريم مبني على سد الذرائع ، والذي يباح لاجل الحاجة التي هي دون مرتبة الضرورة ، كما هو معلوم عند أهل العلم . فاذا ما ثبتت الحاجة المعتبرة - شرعاً - لإباحة الممنوع ، صار ذلك الممنوع المحرم – جائزاً .

ونحن إذا ما تأملنا تأملاً منصفاً مجرداً من التقليد ، ومتحرراً من قيود الإرهاب الفكري الذي تفرضه بعض البيئات الاسلامية المحيطة . إذا تأملنا بهذه الطريقة واقعَ المسلمين وحاجتَهم اليوم إلى العمل الجماعي المنظم وما ينبني عليه من مصالح عامة قد تربو على المفاسد المحتملة المترتبة على العمل الجماعي أو الحزبي ، نجد النتيجة مثيرة للجدل والتي تدعو بشدة إلى إيجاد عمل جماعي منظم هو بصيغته المعاصرة : (تنظيم حزبي) .

وإلى جانب هذا التأصيل فإن شيئاً مِمَّا عند مؤيدي العمل الحزبي يوافق الحق والصواب من مسوّغاتٍ أو مبرراتٍ لقيام النظام الحزبي .

ثم لابد من التنبيه الى طرف من منظومة -أو مجموعة - قواعد المصالح والمفاسد العامة ، والتي تندرج تحتها غالب أحكام الشريعة . فإن المستقرئ للنصوص المتعلقة بهذه القواعد تتكشف له حقيقة هامة وهي : إن الشريعة قد تبيح ما هو مُحرّم لذاته لأجل مصالح تتفاوت في قوة ثبوتها ، ودرجة شمولها ، ومرتبة أهميتها،  بالنسبة للعلة التي من أجلها شُرِّع التحريم .

وهذا التغير في الاحكام - من الحرمة إلى الاباحة - المبني على الرخصة المؤقتة أو الدائمية ، بل ومن الإباحة إلى الحرمة أيضاً - يشمل كذلك الاحكام المتعلقة بتغير محل الحكم ، وما كان محرماً لغيره هو من هذا القبيل .

إلا أن الامر اكبر من هذا التأصيل و أوسع ، و أكثر تشعباً من أن تُحصر معالمه بهذه الاسطر ، و من رجلٍ لم يؤتَ جوامع الكلم !!!

لكن في مقابل هذا التأصيل : ألم تكن التجربة التونسية وما تلاها من التجربة المصرية المبنية على خبرات متراكمة طيلة عقود – ألم تكن كافيةً لترسيخ حقيقةٍ مغيّبة مفادها : عدم أهلية الاسلاميين بكل أطيافهم وتجاربهم ومذاهبهم للخوض في العمل الحزبي والسياسي ! وأن تركيبة (الشخصية الاسلامية المعاصرة المتخلّفة) لا تزال بحاجة إلى تهذيب وتقويم وبناء وتطوير : إيماني وأخلاقي وعلمي وعملي بل وعقلي ، لترتقي بعد ذلك أُولى درجاتِ سُلّمِ التمكين والنصر والتوفيق .....((و درجة : العمل الجماعي المنظم من ضمن درجات ذلك السلم)).

وأنا أعلم أن عند مَن لا يزال متمسكاً بقضية التحزب كثيراً من الاجوبة ، بل والردود لمثل هذا الكلام بل ربما زادتهم تلك التجارب الفاشلة إصراراً و(عزيمة) للمضي فيما بدؤوا به .

لكني اعتقد ان تلك الاجابات والردود لا تغير من الامر شيئاً مهما كانت تبريرات ذلك الفشل الذريع الذي مُني به الاسلاميون المتحزبون الخائضون في معمعة العمل السياسي ، سواءً من تمسك بنظرية المؤامرة[2] على اختلاف ألوانها و(التوابل) التي توضع لها .

أو مَن تذرع بوجود أخطاء داخلية في ذلك التنظيم أو خارجه ، أو عدم تناسب الظروف الملائمة لتحقيق الاهداف والمقاصد ، وغيرها من الذرائع والاجوبة .

لكن ألا تدور تلك التبريرات كلها في فلك واحد ، وتصب في تقرير حقيقة واحدة هي : عدم أهلية الاسلاميين – على اختلاف مذاهبهم - ولغاية كتابة هذه الاسطر - لأن يتسلموا زمام الحكم أو السلطة ، وأن شعوبهم لم تتشرف إلى الان بالترقي الى مراتب التمكين ....

وتبقى هنا الاشكالية الواقعة بين التأصيل والتنزيل لهذه القضية وتجاذباتها المتناقضة - بحاجة الى مزيد تحرير وضبط للخروج بموقف اكثر وضوحاً وأسعد بالصواب ، واقرب الى الواقع (غير المثالي).........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 


[1] اي مذهب المؤيدين للتحزب

[2] وهي الشماعة - سهلة التناول- التي صرنا نسمعها من الفاشلين سواء من الاسلاميين عامة اوالعرب

...

 

Copyright © 2013 All rights reserved.

Flag Counter